يبدو أن الحديث عن العنف المدرسي الدائر بين المعلم والتلميذ، ترك موقعه للحديث الجديد (القديم) عن العنف الطلابي، فقد استراح الكادر التعليمي في الابتدائية والاعدادية من الخوض في هذا الحديث، ووفروا على أنفسهم الوقت والجهد والضغوط النفسية اذا ما ضربوا هذا، أو عنّفوا ذاك، مستظلين بقرار حكومي عممته مديريات التربية في العراق كافة، فما على المعلم إلا أن يشرح المادة للطلاب خلال الوقت المحدد، ثم يذهب الى داره، ولا عليه بمن يجلس أمامه؛ سواءً كان مؤدباً وخلوقاً، أم كان مشاكساً وعدوانياً.
إن القرار الرسمي بعدم جواز معاقبة الطالب بالضرب، جاء في وقت غير مناسب تماماً -مع تحفظنا بالاساس على مبدأ التعنيف في المدارس- حيث بلغ التراجع في مفهوم التربية مستويات متدنية جداً، الى جانب التعليم، هو الآخر بات مهدداً بالانحسار، لاسيما في المدارس الحكومية، و مردّ ذلك الى الاعتقاد السائد بأن التعنيف المدرسي لم يكن بنوايا تربوية على الاغلب، بقدر ما هي ردود فعل من المعلم او المدرس على أثر مشاحنات بينه وبين الطالب على أداء الواجبات المدرسية او عدم التفاعل مع الدرس او أي أمر آخر.
وعندما ينتفي أي نوع من الروادع او الكوابح امام السلوكيات المشينة وغير الاخلاقية المؤدية الى العنف داخل المدرسة، فاننا نكون أمام واقع خطير يكرّس ثقافة خاطئة، بل ويدفع الآخرين لاختيار هذا السبيل بغية الحفاظ على وجودهم وكرامتهم، كما لو هي شريعة الغاب!
مما يؤسف له ضياع فرص عديدة لمعالجة ظاهرة العنف المدرسي في السنوات الماضية، سواءً في جانب الطالب وأسرته وخلفيته الاجتماعية، أو في جانب المعلم ومستواه الثقافي والعلمي، وايضاً خلفيته الاجتماعية، وطالما راحت الأقلام تدعو وتطالب بعقد جلسات دورية، او ندوات خاصة تجمع أولياء أمور بعض الطلاب المعنيين، وبين إدارة المدرسة، وفي الوقت ذاته، التباحث علمياً وفنياً مع الكادر التعليمي لتقويم طريقة التعامل مع الطلاب غير السويين في اخلاقهم، ولكن؛ لم يحصل شيء من هذا، إلا بعض المبادرات الفردية هنا وهناك، فاستمر الضرب بالعصي، والصفع، وإطلاق العبارات البذيئة، فيما كنا نشهد حالات ردود الفعل، بتعرض المعلمين لاعتداءات من ذوي الطلبة، ويستمر الشدّ والجذب بين هذا وذاك في حلقة مفرغة لا طائل منها، ويكون الخاسر الوحيد دائماً هو التلميذ الصغير في الصفعات التي يتلقاها، او التهديدات والاستفزازات التي تأتيه من المعلم بعد تعرضه للمساءلة.
مع ذلك؛ تبقى المدرسة التي تضم حشداً من الاولاد، وتمثل بيتاً ثانياً لهم، مسؤولة أخلاقياً ومهنياً ايضاً، على حسن تربيتهم، وليس تعليمهم فقط، فلا يمكن التنصّل من مسؤولية التربية مهما حصل، لانها القاعدة التي ينطلق منها الطالب الناجح داخل المدرسة، ومن ثم في الجامعة، وبعدها في المجتمع والبلد، وأي خلل يطرأ في سلوك هذا الطبيب أو ذاك المحامي، فضلاً عن الساسة وكبار موظفي الدولة، يرجع باللوم في قدر كبير منه الى المدرسة والى المعلم، لانهما أسهما في إنجاح طالب، وتفوقه في الدرجات دون أن تراقب تسافله في الاخلاق.
ورب سائل يسأل عن دور الأسرة في هذه المسيرة؟
إن حضورها مقتصر على تقديم نماذج متنوعة من السلوك والتصرفات، فهناك من الاطفال من يحرص على أن يؤدي التحية والسلام على أقرانه، وايضاً الى المعلم، في ذهابه وإيابه، بالمقابل هنالك من يحرص على أن يسبق زميله الطالب الى باب الخروج حتى وإن اضطر لدفعه بعنف وإلقائه على الارض.
الآباء يتولون تربية ابنائهم بما لديهم من منهج يؤمنون به، ويتوقف هذا الدور عند باب المدرسة، حيث يُقال لهم دائماً: “لدينا مدير”، أو “معاون”، أو “مشرفون”، وهم على الأغلب يؤدون دورهم بأمانة واخلاص، بيد أن المطلوب الانتباه الى السلوك العام للطلاب داخل المدرسة، للحد من أي تصرفات عدوانية، او سلوك غير اخلاقي باليد او اللسان.
ولا شكّ أن المبرر الاكبر الذي يقفز امامنا؛ الاعداد الهائلة للطلاب في مدرسة صغيرة، وقلة الكادر التعليمي، واستحالة سيطرة الادارة على جموع من الطلاب، لاسيما وأن معظم الصفوف في مدارسنا تضم المعدل بين 40 الى ستين طالباً، وهو رقم مثير للفزع في الدول المتحضرة والمتقدمة، بل وحتى في بعض الدول النامية.
خلال العطلة المدرسية يمكن النظر في خطوات بإمكان الادارة الاستفادة منها لإنجاح العملية التربوية، بما أوتوا من قوة وامكانات، منها:
1- تفعيل مهمة المشرف التربوي في المدارس، لاستقبال الشكاوى على أي مرتكب مخالفة اخلاقية، وعدم التهاون في استلام الشكوى من الطلبة الصغار في أي وقت خلال الدوام الرسمي، وعدم ترك هؤلاء وحيدين في الساحة، مما يولّد لديهم شعوراً بالضعة والحقارة والاضطهاد، بما من شأنه ان يكون درساً معاكساً للتربية الحسنة، فيتحول الى منتقم ممن يؤذيه، ومن المدرسة ايضاً.
2- إقامة مسابقات ثقافية للطالب المتحلّي بأكبر قدر ممكن من الصفات الحسنة، من خلال نقاط يسجلها عند المعلم بما يفعله من إحسان وتعاون واحترام مع زملائه في الصف، ومع جميع الطلاب في المدرسة، ولتكن الآلية بالتصويت من الطلاب انفسهم ممن يلمسون بانفسهم الاخلاق الحسنة من هذا او ذاك، ويخرج من بينهم الطالب المثالي الخلوق.
ان العنف الطلابي لا يقل خطورة عن العنف المدرسي، لان الاخير محصور بين جدران المدرسة، بينما الاول يمتد الى الشارع والى المنطقة السكنية، فاذا تتحول المشاكسة داخل المدرسة الى ما يشبه العصابات للنيل من هذا الطالب أو ذاك، او الاتفاق على الإيقاع به لدى الادارة، فان انعكاسات هذه التصرفات ستطال المحيط الاجتماعي الأوسع، حيث تصدر ردود فعل بالضد في الشارع او المنطقة السكنية، وربما يتطور الأمر لاستدعاء الكبار لمؤازرة المعتدى عليه وهكذا؛ تتطور الأمور التافهة لتتحول الى فتن وكوارث كان بالامكان تطويقها والقضاء عليها وهي بذرة صغيرة في النفوس.
العنف الطلابي بعد العنف المدرسي
يبدو أن الحديث عن العنف المدرسي الدائر بين المعلم والتلميذ، ترك موقعه للحديث الجديد (القديم) عن العنف الطلابي، فقد استراح الكادر التعليمي في الابتدائية والاعدادية من …