كانت الشعوب بحاجة الى سنين طوال حتى تعرف حقيقة العلاقة المزيفة بين الوحدة، كمفهوم وتطبيق عملي، وبين الانظمة الديكتاتورية. وأثبتت الايام أن هذا الشعار العريض والبرّاق لم يكن سوى لباساً يواري سوءات الطغاة والمستبدين بالحكم، ووسيلة لإضفاء نوع من المصداقية على المشروع السياسي الذي يحمله هذا الحاكم وذاك.
ثم أن الوحدة، من المفاهيم الانسانية المحببة الى النفوس، كما هي؛ الحرية، والعدالة والمساواة والإصلاح وغيرها، ولا حاكم او نظام سياسي مهما فاحت رائحة ديكتاتوريته، لن يجرؤ على تبني مشروع للتفرقة، إنما يحاول الظهور بأنه راعي الوحدة و «التلاحم الوطني» داخلياً، و«التضامن العربي» أو «الاسلامي» خارجياً.
عقدت العديد من المؤتمرات والندوات، ونظّر الكثير حول الموضوع طيلة عقود من الزمن، وكان الحديث يتركز -عمداً- على الدوائر البعيدة، مثل البلاد العربية او الاسلامية، او المحاور الاقليمية، بينما يهمل -عمداً ايضاً- الحديث عن الدائرة الضيقة والمحورية في نظرية الوحدة، إذ المفترض أن تبدأ بالأسرة الصغيرة، ومن ثم تتوسع الدائرة الى شرائح مختلفة من المجتمع، فيكون التقارب ملموساً بين افراد المجتمع لتشكيل قاعدة اجتماعية متماسكة، تكون قادرة على التأثير على القرار الاقتصادي والسياسي.
بيد أن بعض الدول في تجاربها السياسية البعيدة عن التعددية والتداول السلمي للسلطة، فعلت العكس تماماً، كما لاحظنا في تجربة نظام حزب البعث في العراق، خلال سني الستينات والسبعينات، فلم يطمئن صدام و اركان حكمه آنذاك على مستقبلهم السياسي للسنوات القادمة إلا بعد الاطمئنان من تفكيك أواصر المجتمع العراقي الذي كان ربما يضرب به المثل، طيلة العقود الماضية بين سائر البلاد ذات التعدد الاثني والطبقي وحتى الثقافي.
فقد كان ابن الشمال يتجول في الجنوب بحرية والعكس ايضاً، رغم التفاوت في اللغة، فضلاً عن التداخل في السنة الشيعة بين الشرائح الاجتماعية الاخرى، الامر الذي أوجد الطبقة المتوسطة بنسبة عالية جداً، فظهر التجار و الاكاديميون والمهنيون وعلماء الدين وابناء العشائر، ولولا الاجراءات العاجلة لصدام وحزبه، لكانت موجة عارمة من التغيير قد هبّت في العراق وغيرت مجرى التاريخ، فأصبح المعارض السياسي جاسوساً او عميلاً للأجنبي، والشاب عضواً في الجيش الشعبي، والمرأة عضوة في جمعية نسوية حزبية، والطالب أبتكر له مليشيا «الطلائع»، والتاجر تحول الى ارستقراطي عليه استحقاقات اشتراكية لا مفر منها، وغيرها من الاجراءات السريعة، ولكل فئة برنامجها الخاص والمؤدلج ولا علاقة له بالفئة الأخرى، وما يربطهما حبل واحد؛ وهو «السيد القائد».
وهكذا فعلت سائر الانظمة الديكتاتورية في بلادنا، وربما استنسخت التجربة الاكبر لفكرة «فرّق تسد» التي أوجدت هذه الانظمة الديكتاتورية ضمن حدود جغرافية مصطنعة، وما أن ظهرت الحقيقة وعاد الناس الى بعضهم البعض، رأينا بشكل مذهل كيف تلاشى الحكام الذين لم يحلم أحد بزوالهم بالشكل الذي حصل، كما الخفافيش تحت أشعة الشمس.
ويبدو أنه لم ينته العمل بهذه الفكرة نهائياً، فهو انتهى داخلياً، ولكنه استمر على الصعيد الخارجي، فقد بدأت بعض الدول تجربة «فرّق تسد» خارج حدودها لتحقيق مصالح معينة، كما يحصل اليوم في العراق، وهذه المرة ليس على الصعيد المجتمعي، إنما على الصعيد السياسي! بعد أن بلغ معارضوا الأمس، القصور الرئاسية وشكلوا الحكومة في ظل نظام ديمقراطي وانتخابات برلمانية، بينما الدولة العراقية اليوم تشكو قبل أي شيء آخر الى ضعف التماسك والانسجام السياسي والفوضى العارمة في مؤسسات الدولة، مما أولد غول الفساد الرهيب المستشري في كل مكان.
وقد ثبت للكثير من المتابعين، بل حتى الشارع العراقي نفسه، بأن علّة استمرار هذا الوضع الشاذ في العراق، هو الإبقاء على فشل التجربة الديمقراطية في العراق، او على الاقل السماح لها بالسير برجل عرجاء مع صعوبات جمّة بين السقوط والاستقامة والمضي قدماً الى المجهول.