بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
-
تمهيد :
سورة البروج المباركة مكية، آياتها اثنتان و عشرون، و هي السورة الخامسة و الثمانون في ترتيب سور القرآن الكريم.
و قد ورد في فضل هذه السورة عن الإمام أبي عبد الله الصادق، عليه السلام، أنه قال: “من قرأ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} في فرائضه فإنها سورة النبيين، كان محشره و موقفه مع النبيين و المرسلين و الصالحين “.(1)
الامتحانات الصعبة
– لكل سورة إطار عام؛ فما هو الإطار العام لهذه السورة ؟
– جبّار سفيه، تطغيه سلطة محدودة في بلد متواضع؛ فيتخذ قراراً خاطئا باعدام جماعي لطائفة وعت الحقيقة فآمنت بالله؛ فيلقيهم في نارٍ في الأخاديد، و تشهد الجماهير سطوته لكي يكونوا لهم عبرة، و ينتهي،في زعمه، كل شيء.
كلا؛ ان السماوات و الارض وجنودهما و سكانهما ينتظرون محاكمة هذا السفيه في اليوم الموعود، و أن سنن الله في الخليقة، التي تمتد من السماء ذات البروج، في عمق المكان الى اليوم الموعود، في أفق الزمان، و الى الشاهد و المشهود، تحيط بهذا الانسان العاجز المسكين؛ فأين المفرّ؟ !
و هكذا تتواصل آيات سورة البروج التي تفتح باليمين، و تختم بأن الله من ورائهم محيط، و أن القرآن المجيد مصون في اللوح المحفوظ، و في ما بينهما الحديث عن {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} الذين بالغوا في الجريمة؛ فأوقدوا النار في حُفَر؛ ثم القوا المؤمنين فيها، و جلسوا يتفرجون على مشهد احتراقهم.
و هكذا ابتُلي المؤمنون (و ربما بصورة مكررة و في بلاد مختلفة) بهذا البلاءالعظيم، دون ان ينال من ايمانهم مثقال ذرة؛ بل ازداد ايمانهم صلابة و صفاء.
أما اعداؤهم فماذا كانت عاقبة جرائمهم؟ هل بلغوا هدفهم؟ و ماذا استهدفوا من هذا العمل الوحشي الموغل في الجاهلية؟ أَوَليس كسر مقاومة المؤمنين ؟ فهل افلحوا؟
كلا؛ فقد انتشر الدين بسبب مقاومة المؤمنين، و نزل على الجبارين العذاب الاليم، كما انزل الله على فرعون و ثمود العذاب الاليم.
ان هذه السورة الكريمة تتميز بإعداد المؤمنين لاجتياز أصعب الامتحانات و مقاومة اكبر التحديات.
بروج السماء لا تُقاوَم
– لماذا أقسم بالسماء في مفتتح السورة، و قال : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}؟ و ماذا عَنى بالبروج ؟
– الكائنات، و الزمان، و الانسان، ثلاثة شهود عظام على مسؤولية البشر، فأنّى له الهروب، و أنّى له التبرير! و أعظم الكائنات، حسب علمنا، السماوات بما فيها من وحدات من بناء عظيم يسميها القرآن {الْبُرُوجِ}.
و يبدو ان البروج هي طبقات السماء المتمثلة في مجاميع المجرات؛ كلُّ مجرة فيها أعداد هائلة من الشموس.
و اصل معنى البروج الظهور، و لأن البناء العالي ظاهر سمي القصر برجا، كما سمي موقع الدفاع عن المدينة بالبرج.
و لعل انتخاب هذه الكلمة، هنا، كان لأن في السماء حرساً اتخذوا مواقع لرصد حركات الإنس و الجن و الشياطين، مما ينسجم مع السياق الذي يجري فيه الحديث عن جزاء الطغاة على جرائمهم بحق المؤمنين؛ فاذا تحصن الطغاة ببروجهم الارضية فان للسماء بروجاً لا يستطيعون مقاومة جنودها.
و قال بعضهم: البروج هي منازل الشمس، و القمر، و الكواكب، و افلاكها التي لا تستطيع أجرام السماء، على عظمتها، تجاوزها قيد انملة، مما يشهد على انها كائنات مخلوقة مدبرة.
جرائم الطغاة
– اليوم الموعود هو يوم القيامة؛ فما دلالة هذه الصفة كما جاء في قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}
– إن يوم القيامة يوم رهيب، ترتعد السماوات و الجبال و البحار و سائر الكائنات خشية منه و اشفاقا، و اعظم ما فيه مواجهة الانسان لأفعاله بلا حجاب من تبرير، و لا قوة،و لاناصر. و هكذا يحلف السياق به على ما يجري الحديث عنه من مسؤولية الطغاة امام ربهم عن جرائهم بحق المؤمنين.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}، كما يقسم الله به، يوم لا مناصّ منه؛ لانه وعد الله، و وعد الله غير مكذوب، و ليس الانسان وحده، بل الكائنات جميعا موعودة بذلك اليوم؛ فأي يوم عظيم ذلك اليوم؟!
و حضر الشهود
– في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}، من هو الشاهد؟ و من هو المشهود؟
– في يوم القيامة يقدَّم الانسان للمحاكمة ؛ فقد حضر الشهود. كل مكان عاش فيه يشهد عليه، و كل زمان مرّ به يشهد عليه، و كل جارحة استخدمها تشهد عليه، و كل انسان عايشه يشهد عليه، و في طليعة الشهود الانبياء،و الاوصياء،عليهم السلام، و الدعاة الى الله؛ يشهدون عليه أن قد بلّغوه رسالات ربه فلم يقبلها. أيّ مسكين هذا الطاغية الذي تجتمع عليه الشهود من كل موقع و كل حدب؟! ثم تراه في الدنيا غافلاً لاهياً سادراً في جرائمه و كأنه لا حساب و لا عقاب.
و قال بعضهم: الشاهد يوم الجمعة، بينما المشهود يوم عرفة، و روي ذلك عن الامام علي، عليه السلام، و قال البعض: بل كل يوم يشهد على الانسان بما يفعل، و روي عن الرسول، صلى الله عليه وآله، قوله: “ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه: يابن آدم ؛أنا خلق جديد، و أنا فيما تعمل عليك شهيد ؛ فاعمل فيّ خيرا أشهد لك به غدا ؛ فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا، و يقول الليل مثل ذلك”.(2)
نيران الأخدود
– قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}، هل يعني أنهم قُتلوا فعلاً؟ و من هم أولئك؟
– إن الله تعالى، الذي خلق السماء ذات البروج ؛فلم يدع فيها ثغرة و لا فطوراً، و جعل للناس اليوم الموعود ليجمعهم و يشهدهم على انفسهم، أرأيته سبحانه يترك الانسان يعبث في الدنيا،و يقتل عباده المؤمنين بطريقة شنيعة، ثم لا يجازيه ؟ كلا. لقد {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} الذين شَقّوا في الارض أخاديد كالأنهر العريضة، و ملأوها نيرانا تستعر.
قال بعضهم: تلك لعنة أبدية تلاحق الظالمين؛ فالقتل هنا كناية عنها.
و قال البعض الآخر : بل ان أولئك الظالمين قد قُتلوا فعلا؛ اذ خرجت شعلة من نيران أخدودهم و أحرقتهم، و ربما قُتلوا بعدئذ، بطريقة اخرى.
المهم أنهم لن يفلتوا من عذاب الآخرة، و ان أمْهلوا في الدنيا لعدة ايام؛ ذلك ان نظام الخليقة قائم على اساس العدالة، و لن يقدر الظالم الانفلات من مسؤولية جرائمه.
تلتهم الضحايا
– من المعلوم أن النار لا تستعر إلا بالوقود؛ فما دلالة قوله تعالى : {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}؟
– لقد كانت نيران تلك الشقوق التي صنعوها في الارض مشتعلة تلتهم الضحايا بسرعة ؛ و لذا وصفها بقوله: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}.
و كم هي فظيعة جرائم الطغاة! و كيف يتوسلون بأبشع الاساليب في سبيل بقائهم عدة أيام أُخر في سدة الحكم! أفلا يستحق مثل هؤلاء نيران جهنم المتقدة ؟!
المنظر الرهيب
– ماذا أراد بوصف هذا المشهد بقوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}؟
– رهيبٌ و مثيرٌ منظر الانسان البريء الوادع وهو يحترق بالنار و يجأر للمساعدة دون ان يستجيب له احد، وقد يكون شيخا كبيرا، او شابا يافعا، او امرأة ضعيفة، او حتى طفلة بعمر الورد.
فما أقسى قلوب الطغاة و اتباعهم و هم يتحلقون حول النار ينظرون الى المؤمين يلقون في النار فيحترقون! حقاً ان الكفر يمسخ صاحبه، و الطغيان يحوله الى ما هو اسوأ من وحش كاسر؛ و ذلك قوله : {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}.
حفلة إعدام جماعية
– لماذا دعوا الناس لحضور هذا التعذيب الجماعي للمؤمنين كما قال: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}؟
– لقد دعوا الجماهير الى حفلة “اعدام جماعية”، ليشهدوا عذاب المؤمنين، و ليكون عذابهم عبرة لمن بعدهم لكي لا يفكر أحد بمخالفة دين السلطان، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}.
إنها جريمة بشعة تقع في وضح النهار و بعمد و قصد و بتحدي سفيه لملكوت الرب حيث يُستشهد الناس على وقوعها، و لا أظن ان جريمة تستكمل شروط الاجرام كهذه؛ فماذا ينتظر المجرم غير القتل و ملاحقة اللعنة ؟!
هؤلاء هم
– و لكن؛ من هم اصحاب الأخدود؟ و في أي بقعة كانوا ؟
– قال مقاتل: ان اصحاب الاخدود ثلاثة: واحد بنجران، و الآخر بالشام، و الثالث بفارس. أما بالشام فانطياخوس الرومي، و أما الذي بفارس فبخت نصر، و الذي بأرض العرب فيوسف بن ذي نواس.(3)
و حسب هذا القول، يُحتمل انّ جريمة الحرق بالنار عبر الاخدود كانت شائعة في الجاهلية في اكثر من بلد، فإذن، لا يهمنا من كان يفعلها، إنما العبرة منها.
و هكذا يفعل الايمان بالقلب الانساني فيجعله أقوى من زبر الحديد، و أثبت من الراسيات، و أسمى من القمم السامقة، و أشد صلابة من كل ما يبتدعه الطغاة من وسائل الاذى، و التعذيب، و القتل!
وضوح الرؤية
– هنا تساؤل عريض، و هو: ما الذي جعل هذا الانسان الذي لا يكاد يتحمل أذى َبقَّةٍ، يقتحم النيران المتقدة بجسده النّض ليحترق أمام أعين الناقمين و الشامتين، دون ان يتنازل عن ايمانه ؟
-أقول: أولا: إن وضوح الرؤية عندهم كان قد بلغ حدا كانوا يعيشون “ببصائر قلوبهم” الجنة و نعيمها؛ فيتسلّون بها عن شهوات الدنيا، و يعيشون “بقوى قلوبهم” النار و عذابها؛ فتهون عليهم مصائب الدنيا و مشاكلها.
و اننا نقرأ قصة الأم التي ترددت قليلاً باقتحام النار مع رضيعها؛ فقال لها ابنها: يا أماه؛ اني أرى امامك ناراً لا تطفأ (يعني نار جهنم)؛ فقذفا انفسهما في النار.
ثانيا : عندما يقرر الانسان شيئا يسهل عليه القيام به، و بالذات حينما يكون الامر في سبيل الله يهونه الرب له، و يثبت عليه قدمه، و يرزقه الصبر على آلامه و تبعاته، و يقوي ايمانه، و يشحذ بصيرته ليرى بها أجره في الاخرة؛ و هكذا ترى عباد الله الصالحين يقاومون، عبر التاريخ، مختلف الضغوط، و يتحملون الوانا من الاذى بقلب راض و نفس مطمئنة لعلمهم ان سنن الله واحدة لا تتغير و لا تتبدل، و ان المؤمنين الذين احترقوا في الاخدود هم سواء مع أي مؤمن يعتقل اليوم في سجون الطغاة او يُعذب، او يُقتل، او يتحمل مشاكل الهجرة و الجهاد و مصائبهما. و كما خلّد الله أمجاد أولئك الصديقين؛ فانه لا يضيع أجر هؤلاء التابعين لهم. و كما ان الله قتل اصحاب الاخدود و نصر رسالاته ؛فانه يُهلك الجبارين اليوم و يستخلفهم بقوم اخرين.
تبيين السورة
{وَالسَّمَاءِ}: قَسَما بالسماء {ذَاتِ الْبُرُوجِ}: الطبقات المتمثلة في مجاميع المجرات {وَ}: قَسَما بـ {الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}: يوم القيامة {وَ}: قَسَما بـ {شَاهِدٍ}ْ: الأنبياء و الأوصياء، عليهم السلام، أو: كل يوم، أو: يوم الجمعة، (وَ):قَسَما بـ{مَشْهُودٍ}: يوم عَرفة؛ و جواب هذه الأقسام: {قُتِلَ}: لعنوا لعناً أبديا، أو: قتلوا فعلا؛ و هم {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} الذين شقّوه في الأرض، وجعلوا فيه النار، و أحرقوا المؤمنين بالنبي عيسى، عليه السلام، {النَّارِ}ْ: نيران تلك الشقوق {ذَاتِ الْوَقُودِ}؛ فكانت تلتهم الضحايا بسرعة {إذْ هُمْ}: أصحاب الأخدود الكفار {عَلَيْهَا}: على النار {قُعُودٌ}: ينظرون إلى المؤمنين و هم يحترقون، {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} من إحراقهم في النار {شُهُودٌ}: يرونهم أمامهم.
(التتمة في العدد القادم)
———————
1. تفسير نور الثقلين،ج5،ص540.
2. تفسير القرطبي،ج19،ص284.
3. تفسير القرطبي،ج19،ص291.
حقيقة قضية اصحاب الاخدود معبرة و المقال جميل واسلوبه شيق شكرا لكم وللكاتب
أجمل ما في المقال (الحوار) استذكار المقابر الجماعية التي صنعها طاغية العراق على خطى أسلافه الطغاة الظلمة بحق ابناء الشعب العراقي. وبارك الله بكم.