الدنيا دار ممر وليس دار مقر، إذن فنحن سائرون الى عالَم آخر، وفي ذلك العالَم يكون مقرنا، ويتقرر مصيرنا، ليس مصيرنا خلال 70 او 80 او 100 سنة كما الدنيا، بل مصيرنا الأبدي {هم فيها خالدون}، في الجنة أو النار.
هذا المصير المجهول هو الذي يشغل بال الإنسان في الدنيا، والمؤمن خائف أن يكون مصيره الأبدي سلبياً من العذاب والنار والجحيم، فهو يسعى لكي يحصل على اطمئنان – ولو بشكل نسبي – على أنَّ مصيره الى خير وأنَّ خلوده الأبدي في النعيم، ذلك لأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ولكن يبقى السؤال: ما هي الصفات التي تجعل الإنسان من المؤمنين والمؤمنات الذين وعدهم الله – وهو الصادق في وعوده – بالفوز العظيم؟ هل هو مجرد الايمان النظري القلبي العقيدي؟
ولكي لا نتخبَّط في البحث عن جواب هذا السؤال المهم والمصيري، هناك معادلة بسيطة نستنبطها من القرآن الكريم، وهي: لأنَّ الله حكيمٌ وصادقٌ وعادلٌ وقادرٌ على كل شيء، فإنَّ الفوز يكون من نصيب مَنْ (يحبه) الله تعالى.
حب الله ليس تفاعلاً عاطفياً احساسياً كما هو عند أكثر البشر، إنما (حبه) نابع من حكمته وعدله، فهو (يحب) لما في المحبوب من صفات تؤهله لهذة الحظوة العظيمة
وحب الله ليس تفاعلاً عاطفياً احساسياً كما هو عند أكثر البشر، إنما (حبه) نابع من حكمته وعدله، فهو (يحب) لما في المحبوب من صفات تؤهله لهذة الحظوة العظيمة، كما الله لا (يبغض) أحداً بسبب مشاعر وعواطف واحاسيس، وإنما لأنَّ (المبغوض) يستحق ذلك جزاءً لأعماله.
إذن، لنبحث: مَنْ مِنَ الناس يحبه الله؟ وبالتالي يحظى برضوان الله والفوز العظيم؟ فإذا عرفنا لذلك نسعى لكي نكون كذلك.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. هذا العنوان – في الحقيقة – يجمع كل العناوين الآتية الأخرى، لأنَّ الرسول، صلى الله عليه وآله، هو جامع لكل صفات الخير والايجاب
في القرآن الكريم نلاحظ تسعة عناوين يصرِّح الله تعالى بأنه (يحبهم).
1- أتْباع الرسول: في الآية 31 من سورة آل عمران نقرأ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. هذا العنوان – في الحقيقة – يجمع كل العناوين الآتية الأخرى، لأنَّ الرسول، صلى الله عليه وآله، هو جامع لكل صفات الخير والايجاب. فاقرأ سيرة نبيك العظيم، واجعل حياتك – قدر المستطاع – وفق مفردات سيرة الرسول، فيحببك الله ـ تعالى ـ.
2- المحسنون: في آيات خمس نقرأ: {إِنَّ اللَّهَ یحِبُّ الْمُحْسِنِینَ}، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. والمحسن هو من يتصرف مع الآخرين فوق واجبه، فهو يؤدي الواجبات التي لو تركها عوقب عليها، ولكن اضافة الى ذلك يقوم بالاحسان الى الآخرين، كالاحسان للوالدين والاقربين والجيران والضعفاء في المجتمع، وهذه الصفة يحبها الله لأنها صفته البارزة، فهو محسن بعباده رغم عصيانهم وتمردهم.
3- التوّابون: في الآية 222 من سورة البقرة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ}. وكلمة (التوّابين) مبالغة في التوبة، أي من يكثر التوبة، والتوبة تعني: العودة الى الله كلما شعر الإنسان بابتعاده بسبب المعصية واتباع الهوى، فالتائب من الذنب ليس فقط لا يبغضه الله، بل يحبه، لذلك فاننا لا نيأس من رحمة الله اذا تورطنا في الذنب، بل سرعان ما نتوب ونحظى بالمغفرة من جهة، وبحب الله من جهة أخرى.
4- المتطهّرون: ممن يحبهم الله هم (المتطهِّرون). في الآية 222 – البقرة نقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وفي التوبة:108 نقرأ: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). والآيتان تشيران الى الطهارة المعنوية، فالآية الاولى جاءت بعد ذكر التوبة وهي تطهير للنفس من الذنوب، والآية الثانية تتحدث عن المسجد القائم على اساس التقوى الذي يقوم فيه رجال متطهرون. إذن، لنبادر الى تطهير نفوسنا من المعاصي، وسوء الخلق، والحسد، والكبر، والبغضاء، والحقد، والكراهية، لكي يحبنا الله.
5- المتقون: وهم الذين يتورعون عن المحارم ويبتعدون عن مواقع الذنوب والمعاصي، فلا عجب أن يحبهم الله ـ تعالى ـ: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
6- الصابرون: في آية واحدة قال الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}. والعبارة وردت في سياق الجهاد وعدم الاستكانة والشعور بالضعف بازاء ما يصيب الإنسان في سبيل الله، فالصبر – إذن – معناه هنا: المقاومة، والاستقامة، والتحدي. وكل ذلك يحبه الله ويحب من يتصف بهذا الصبر.
7- المتوكلون: هؤلاء أيضاً ممن يحبهم الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. وجاءت العبارة في سياق العزم واتخاذ القرار بعد المشورة، فتعني الكلمة أن الله يحب الذين يتشاورون في الأمور، فاذا توصلوا الى قرار حازم يتكلون على الله في الإقدام دون تردد أو خوف، لأن الله هو مصدر كل قوة في العالم، فمن يتكل عليه لا يخاف دركاً ولا يخشى، وبالتالي: يحبه الله.
8- المقسطون: وهم السالكون نهج العدل والقسط في الحياة، هؤلاء يحبهم الله تعالى أيضاً، لأنه هو العادل في كل أموره، ولذلك كررها رب العزة ثلاثاً: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، فالمقسط العادل الذي لا يظلم أحداً، ولا يعتدي على الحقوق والحرمات، هو المؤمن الحقيقي الذي يحبه ربنا المتعال.
9- المجاهدون في سبيل الله: نقرأ في الآية 4 من سورة الصف: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}، ليس القتال فقط، وإنما القتال في سبيل الله، والحفاظ على الوحدة والتراص في المجتمع الجهادي، حتى يكون المؤمنون كالبنيان المرصوص. وفي الآية 54 من سورة المائدة نقرأ أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
فالله يحب من يكون: متواضعاً ولطيفاً مع المؤمنين، عزيزاً وقوياً بازاء الكافرين، مجاهداً في سبيل الله، لا يخشى لومة اللائمين في الاستقامة على طريق الحق والهدى. هؤلاء يحبهم الله و: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.