الفائز الثاني في المسابقة الفاطمية
مقدمة
إن مسألة التربية هي رسالة الأنبياء جميعاً في هذه الدنيا، لأنهم هم الذين أرسلهم الله ليُربوا البشر على أصول المنهج الرباني، والطريقة الرحمانية في تربية الإنسان، ولذا بدأ ـ سبحانه ـ بتربية الأنبياء والرسل، عليهم السلام، قبل إرسالهم، وتحميلهم رسالة الله إلى أممهم وشعوبهم، وفي قصة سيدنا موسى الكليم صورة واضحة حيث يقول ربنا ـ سبحانه ـ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. (طه: 39)، وفي آية أخرى يقول تعالى له: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}. (طه: 41)، فصناعة الإنسان هي تربيته على المنهج الذي يريده الخالق والصانع له.
وكذلك نجد في الأحاديث النبوية الكثيرة التي تصف تربية رسول الله، صلى الله عليه وآله، ورعايته الخاصة من قبل الخالق ـ تعالى ـ قال، صلى الله عليه وآله: “أدبني ربي فأحسن تأديبي“، وقال أيضا: “أنا أديب الله وعليٌّ أديبي“، وهذه الحقيقة التربوية يؤكدها الإمام علي، عليه السلام، بقوله: “إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أدبه الله عز وجل وهو أدبني وأنا أؤدِّب المؤمنين وأورِّثُ الأدب المكرَّمين).(ميزان الحكمة للريشهري: ج1 ص63).
ويصفها بما لا مزيد عليه من البيان أمير البيان وفصيح اللسان الإمام علي، عليه السلام، في خطبته حيث يقول: “لقد قرن اللَّه به، صلى الله عليه وآله، من لدنْ أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته؛ يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالَم، ليلَه ونهاره، ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفَصِيل (الفلو) أثر اُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علَماً، ويأمرني بالاقتداء به“. (نهج البلاغة: خ192).
لا أحد يستطيع من العقلاء أبداً في كل زمان ومكان أن ينكر قانون التربية والتنشئة البيتية، وأثرها البالغ في البشر ، وهذا أيضاً كان مميَّزاً بالنسبة لفاطمة الزهراء، عليها السلام، وهي البنت الوحيدة في بيت محمد وخديجة في مكة المكرمة
هذا الأدب أشرف وأعظم وأكرم المواريث التي يورثها الأنبياء والرسل، عليهم السلام، في أممهم، وذلك لأنها تصنع الأمة صناعة ربانية، فالتأدب بآداب الله يجعل الأمة أمة متخلِّقة بأخلاق الله، والإمام علي، عليه السلام يقول: “مَنْ تأدب بآداب الله عز وجل أداه إلى الفلاح الدائم“، وهي خير ما يورثه الآباء للأبناء في الأجيال، ويقول الإمام علي، عليه السلام، “الأدب خير ميراث“، ويقول: “لا ميراث كالأدب، و”نعم النَّسب حُسنُ الأدب“، و”مَنْ قعد به حسبه نهض به أدبه“، (معجم حكم الإمام علي، عليه السلام،هادي المدرسي: ص40)، فكيف إذا اجتمع الأدب والنسب، والسبب في شخص اختاره الله ليكون للعالمين مثالاً في التربية والأدب وحسن السيرة مدى الأيام؟
فاطمة الزهراء، عليه السلام وريثة الأدب النبوي
فإذا لاحظنا كل ما تقدم وهو قليل من كثير في الأدب الروائي والأخلاقي لمدرسة أهل البيت الأطهار، عليهم السلام، نجد أن فاطمة الزهراء، عليها السلام، هي التي حازت كل فضيلة، واشتملت على كل أدب مع النسب الذي لا يضاهيه نسب، والحسب الذي لا يُدانيه حسب في العالمين، ولذا جاءت صورة كاملة لجنسها، فهي الإنسانة المعصومة في جنس النساء، ولذا هي المثال الذي صنعه الله ورباه وأدَّبه رسول الله، صلى الله عليه وآله، لتكون تلك المرأة القدوة، والأسوة للنساء جميعاً عبر العصور.
فهي التي ورثت شمائل وصفات وخصال أباها رسول الله، صلى الله عليه وآله، بالوراثة الطبيعية البشرية بقانون الوراثة المعروف، فكانت بضعته الطاهرة كما وصفها الراوي في روايته لمجيئها إلى المسجد النبوي وخطبتها فيه حيث قال: “لما بلغ فاطمة، عليها السلام، إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها وأقبلت في لمَّة من حفدتها ونساء قومها تطأ في ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله، صلى الله عليه وآله، حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء، ثم أنَّت أنَّةً أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت طويلاً حتى سكنوا من فورتهم“. (فاطمة الزهراء ، عليه السلام،من المهد إلى اللحد للسيد القزويني: ص327).
فالثابت في التاريخ الإسلامي الذي أنصف فاطمة الزهراء، عليها السلام، أنها البنت الوحيدة التي كانت لرسول الله، صلى الله عليه وآله، وهي ولدت بعد البعثة، والمعراج، وجاءت نطفتها من الجنة، فكانت حوراء بصورة إنسية، فكان رسول الله، صلى الله عليه وآله، كلما اشتاق إلى رائحة الجنة شمَّها وقبَّل خدَّها حتى اعترضت عليه بعض نسائه فبيَّن لها هذه الحقيقة الفاطمية، فعن عائشة بنت أبي بكر، قالت: قلتُ: يا رسول الله مالكَ إذا جاءت فاطمةُ قبّلتَها حتّى تجعل لسانَك في فيها كلِّه، كأنّك تريد أن تُلعقها عَسَلاً؟!
قال: “نعم يا عائشة إنّي لمّا أُسري بي إلى السماء أدخلَني جبرئيلُ الجنةَ فناولني منها تفّاحةً، فأكلتُها فصارت نطفةً في صُلبي فلمّا نزلتُ واقعتُ خديجة ففاطمة من تلك النطفة وهي حوراء إنسيّة، كلّما اشتقتُ إلى الجنة قبّلتُها“، وفي رواية أخرى قال رسول الله، صلى الله عليه وآله لها: “يا عائشة.. فما قبّلتُها قطّ إلاّ وجدتُ رائحةَ شجرة طوبى منها“. (فاطمة عن لسان عائشة؛ الشيخ جعفر الهادي: ص1 عن مصادره).
وهذا ما كان يؤكده رسول الله، صلى الله عليه وآله، في كثير من أقواله بحقها حيث يقول: “فاطمة بضعة منّي مَن سرّها فقد سرّني ومَن ساءها فقد سائني، فاطمة أعزّ الناس عليّ“، و”فاطمة بضعة مني وهي قلبي وروحي التي بين جنبي فمَن آذاها فقد آذاني ومَن آذاني فقد آذي الله“، و”إنما فاطمة بضعة مني فمَنْ أغضبها فقد اغضبني“. (فاطمة الزهراء الحوراء الإنسية الشيخ ضياء الجواهري: ص3).
فهي البضعة والقطعة التي انفصلت عن النبي، صلى الله عليه وآله، بأمر إلهي لتكون تلك النَّسمة الطيبة الزكية والحوراء الآدمية، لتربط الرسالة بالولاية، وتكون أماً لهم جميعاً، فهي (أم أبيها) رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأصل بنيها الأئمة الأطهار، عليهم السلام، جميعاً إلا شريكها وكفئها وابن عمها أمير المؤمنين، عليه السلام، ولولاه لما كان لها كفؤ من آدم فما دونه، فهذا هو الأصل البشري والبيولوجي لسيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام في هذه الدنيا.
قانون التربية والتكامل البشري
وبعد قانون الوراثة الذي تميَّزت به فاطمة الزهراء، عليها السلام، عن الخلق جميعاً يجب أن نلحظ القانون الثاني الذي يحكم حياة البشر فيما بينهم في هذه الحياة، ألا وهو قانون التربية والتنشئة البيتية، وأثرها البالغ في البشر ولا أحد يستطيع أن ينكره من العقلاء أبداً في كل زمان ومكان، وهذا أيضاً كان مميَّزاً بالنسبة لفاطمة الزهراء، عليها السلام، وهي البنت الوحيدة في بيت محمد وخديجة في مكة المكرمة.
في ذلك البيت الذي كان يرتاده ويخدم أهله سيدنا جبرائيل، عليه السلام، وأصناف الملائكة، والبنت أكثر ما تتأثر بأمها وأخلاقها وطيبها وحُسن معشرها، فكيف إذا كانت الأم السيدة خديجة الملقبة بالطاهرة في قريش، والتي تركت الدنيا لأجل حبيبها محمد، صلى الله عليه وآله، وهذه المولودة المباركة التي كانت تُحدِّثها وتُؤنسها وهي في بطنها، ألم تُعلمها وتؤدبها بأدبها وتغرس فيها طهرها وعفتها وأخلاقها بعد أن تلدها، وهكذا فعلت، سلام الله عليه، وحتى آخر لحظة كانت توصي بفاطمة.
وأما أبوها الذي كان حديث السماء والأرض، حيث بُعث بالدِّين الخاتم لكل الأديان، وراح ينزل عليه آيات القرآن، وليس عنده من بنين غيرها، أليس كان يزقها الآيات وتفسيرها وتأويلها لحظة بلحظة، وآية بعد آية، وسورة بأثر سورة؟ وهو الذي كان خُلقه القرآن الكريم، وأدَّبه الرحمن، وأمره أن يؤدب أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء، عليها السلام، خاصة ليكونا مثالاً كاملاً في الأدب للعالمين، وهكذا فعل رسول الله، صلى الله عليه وآله، بهما فجاءا آية من آيات الله في الأخلاق والأدب والدِّين والدنيا.
المعجزة التربوية في الحياة الإنسانية
الباحث في تاريخ الرسالات يجد أن لكل الأنبياء، عليهم السلام، معجزات تُثبت نبوَّتهم، يؤيدهم الله بها في مواجه أممهم وأقوامهم، كالسفينة لنوح، والعصى واليد البيضاء لموسى، وشفاء الأمراض وإحياء الموتى لعيسى، والقرآن الكريم للحبيب محمد، صلوات الله عليهم جميعاً،، فإن لكل نبي معجزته في قومه وحياته ليكون لهم مثالاً واقعياً يرونه بينهم، فكانت مهمة النبي والرسول في تربية وصيه هي من الواجبات التربوية في دنيا البشرية، ليكون الوصي المثال الذي يقتدون به.
العالم يكتشف كنوزنا الإنسانية ونحن ندفنها وننكرها ونحاول تشويهها، وهذا ما وقع على سيرة ومسير سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، التربوية
وهكذا ربَّى رسول الله، صلى الله عليه وآله، كل من ابنته فاطمة، وأخاه علي، عليه السلام، على تلك الآداب الربانية، والأخلاق الرسالية الراقية جداً، ثم قرنهما بعقد قران وزواج في الأرض بعد أن فعل ذلك بهما رب العالمين في السماء، ليُعطي للبشرية، والحياة الصورة المثالية للأسرة المؤمنة، التي تربَّت على هدى القرآن الكريم وآياته وتخلَّقت بأخلاقه وتأدَّبت بآدابه ثم عكست ذلك كله في أبنائها بنين وبنات فجاؤوا قدوات وأسوات فريدة في هذه الحياة البشرية من كل النواحي الإنسانية.
ففي الحقيقة الاجتماعية، والواقع التاريخي، أن الأسرة العلوية والفاطمية هي معجزة ربانية، أظهرها رسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى العلن في المدينة المنورة، تلك المعجزة التربوية له يشهد بها التاريخ البشري كله، ولذا لا نعجب أن اكتشف علماء السياسة والاجتماع في بداية الألفية الثالثة “أن علي بن أبي طالب أعدل حاكم عرفته البشرية“، وأنه الإنسان الحكيم الذي يجب أن يَقتدي به الناس جميعاً الحاكم والمحكوم، وناشدت الحكومات والدول للعمل بعهده لمالك الأشتر حين ولاه على مصر واعتبروه وثيقة إنسانية لحقوق الإنسان.
إعجاز فاطمة التربوي
العالم يكتشف كنوزنا الإنسانية ونحن ندفنها وننكرها ونحاول تشويهها، وهذا ما وقع على سيرة ومسير سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، التربوية، وهي أنها تزوجت كأبسط ما يكون الزواج، وفي بيت بسيط جداً، وأنجبت ولدين وبنتين، وقتلوا الثالث وهو في بطنها، وقتلتها في ريعان شبابها أمة قريش الجاهلية، والمتجاهلة بها وبمعجزتها التربوية والإنسانية الراقية التي لم يشهد التاريخ مثالاً لها منذ آدم الأول وحتى آخر ولد من أولاده في هذه الحياة وسأختصرها بهذه الكلمات.
فاطمة الزهراء، عليها السلام، أنجبت ولدين صبيين في أقل من عامين سماهما الله الحسن والحسين، عليه السلام، ولكن أي ولدين ولدت فاطمة؟، فهما (سيدا شباب أهل الجنة)، و(إمامان قاما أو قعدا)، وهما ابنا رسول الله، صلى الله عليه وآله، وذريته منها، فهل يوجد في أبناء الأنبياء والرُّسل، والبشر جميعاً كهذين العَلَمين الإمامين المباركين؟
فالحسن والحسين، عليه السلام، ليسا سيدان في الدنيا فقط بل سيدا شباب أهل الجنة، والسادة في الدنيا ينتسبون إليهما كما هو معروف بين المسلمين السادة من أبناء فاطمة، عليه السلام، لقول رسول الله، صلى الله عليه وآله، للإمام الحسين: “يا حسين أنت السيد ابن السيد أبو السادة، تسعة من ولدك أئمة أبرار والتاسع قائمهم، أنت الإمام ابن الإمام أبو الأئمة تسعة من صلبك أئمة أبرار والتاسع مهديهم، يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً“. (بحار الأنوار: ج 36 ص344).
وأما البنتين فهما زينب الكبرى، عقيلة الطالبيين، وشقيقتها السيدة أم كلثوم، تلك البضعتين الَّتين لم يشهد التاريخ النسائي مثلاً لهن ولا شبيهاً بهن، فأين نساء الدنيا من عقيلة بني هاشم، وبطلة كربلاء، وشريكة أخيها الإمام الحسين ، عليه السلام،سيد الشهداء في نهضته التي رسَّخت الإسلام في هذه الدنيا؟
فالمعجزة الفاطمية التربوية تتمثل بإنجاب وتربية هؤلاء الأفذاذ من البنين والبنات الذين كانوا قوة الرجال والنساء فيما بعد وأنَّى للدنيا أن يشهدوا لأسرة مثل الأسرة الفاطمية التي تكاملت فيها كل القيم الإنسانية فكانوا معصومين طاهرين مطهرين من الله رب العالمين؟