{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}
امرأة كبيرة في السن تسير في الاسواق او الاماكن العامة، وهي بكامل حجابها وحشمتها، ربما بالعباءة المعروفة، او سائر اشكال الحجاب الساتر لأجزاء البدن، وتصطحب معها بناتها في سن البلوغ، ولكن؛ بمظهر آخر مغاير تماماً لما هي عليه، فنجد البنطال مع القميص، او التنورة مع الكنزة مع شال لغطاء الرأس، وايضاً مع غير قليل من التحفّظ بشكل عفوي.
هذا المنظر المألوف اجتماعياً في عديد البلاد الاسلامية، ومنها؛ العراق، يكشف عن أزمة شديدة غير معلنة في أمر التربية الأسرية تواجه الأم تحديداً، ربما قبل الأب كونه يقضي أكثر وقته خارج البيت بينما الأم هي المتواجدة –على الأغلب- في البيت وبين الأولاد، ويضع الأم أمام مسؤولية كبيرة، بل ومطالبات أكبر من المجتمع فيما يشهده من ظواهر سلوكية وثقافية غير حميدة من المراهقين والشباب.
طبعاً؛ القضية لا تنحصر في الابناء الاناث، إنما تشمل البنين ايضاً، بما لا يقل خطورة في نتائج التربية الخاطئة، و ربما تكون النتائج والعواقب أكثر خطورة نظراً لمساحة الحرية الأوسع له دون الإناث خارج البيت، وهو ما لا يلتفت اليه بعض الكتّاب والباحثين في الشأن التربوي.
الأم وحيدة في البيت
ليس المقصود عدم وجود أولاد، او أنها لا تنجب، فتكون وحيدة في البيت، وهو الهاجس الأكبر لكل امرأة في الحياة، إنما الوحدة المعنوية في ميدان التربية التي باتت الهاجس الجديد للأمهات بعد أن كُنّ في “الزمن الجميل” محاطات بالنساء الأكبر سنّاً، من أمهاتهنّ او أقربائهن ممن يقدمن المشورة في أمور مختلفة، حتى وإن لم تسكن في نفس الدار، فان الأم ـ في ذلك الزمن- بامكانها الاستعانة بوالدتها او خالاتها او عماتها او غيرهنّ لرفع أي اشكال، او إبهام يتعلق بتربية الطفل من أيامه الاولى وحتى مراحل متقدمة، وايضاً؛ مسائل في الطبخ وتدبير البيت وغيرها، بل وايضاً؛ العلاقات الزوجية، أما اليوم فالأمر مختلف تماماً، مما جعل الأم حالياً تتأثر بثلاث أمور ـ نراها اساسية – وهي تمارس دورها كأم أولاً، ومربية ثانياً:
الأمر الأول: الخلفية التربوية للأم، فهي قبل ان تكون أمّاً كانت فتاة صغيرة بين أب وأم، وافراد أسرة آخرين، ومحيط اجتماعي يترك آثاره المباشرة على شخصية هذه الفتاة ـ الأم المستقبلية – فاذا كان المنهج التربوي ناظراً الى المستقبل، وأن تكون الفتاة الصغيرة أمّاً ناجحة وصالحة، من المؤكد أنها ستنتج أسرة جديدة تطبعها بنفس طباعها الحسنة، والعكس بالعكس تماماً.
المشاكل الزوجية، التي تبدأ دائماً بعدم تحكيم قيم الاخلاق والدين في مختلف جوانب العلاقة الزوجية، ولا تنتهي بالتقاطعات في الافكار والاذواق والنوايا، حتى يجد الابناء احياناً أنهم أمام أسرتين مختلفتين وليس أسرة او عائلة واحدة، كلٌ له طريقته في الحياة
الامر الثاني: المشاكل الزوجية، التي تبدأ دائماً بعدم تحكيم قيم الاخلاق والدين في مختلف جوانب العلاقة الزوجية، ولا تنتهي بالتقاطعات في الافكار والاذواق والنوايا، حتى يجد الابناء احياناً أنهم أمام أسرتين مختلفتين وليس أسرة او عائلة واحدة، كلٌ له طريقته في الحياة، وهذا ما يصعّب المهمة على المرأة (الزوجة)، فعندما تكون مشغولة بالشدّ والجذب مع زوجها، لن يبقى معها وقت لمتابعة أخلاق وسلوك الابناء.
الامر الثالث: سماتها الاخلاقية الخاصة لها بالغ الأثر على نفوس الاطفال، فالهدوء مقابل الصخب، أو الرغبة الجامحة لقضاء الوقت في الاسواق، مقابل الرغبة في ملازمة البيت، أو الرغبة في العطاء والتواضع واحترام الآخرين، مقابل البخل والتكبر والتعالي، وغيرها من السمات التي تمثل شخصية الأمهات، تترك أثراً بالغاً فيما يتعلمه الطفل داخل البيت، ثم يصدره الى المجتمع.
هنا لابد من الاشارة الى فقرة نلاحظها في كثير من العوائل (الأمهات)، وهي التعويض عن هذه الثغرات بالتقاليد والاعراف وما تركه الآباء والاجداد من طرائق العيش، والأقوال الحكيمة، وبعض السلوكيات والافعال الاجتماعية بأنها الافضل، بيد أن ابناء اليوم ربما تكون لهم رؤية أخرى للحياة تختلف عما كان في العهود الماضية، فتكون القضية محاولة تحتمل النجاح كما الفشل ايضاً، ولكن تبقى المشكلة الاساس لدى الأم قائمة في أمر التربية داخل البيت.
الانترنت.. قارب وسط الأمواج
حتى لا نكون سلبيين إزاء تقنيات الاتصال المتطورة، وايضاً وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت اليوم وسيلة التواصل الاولى بين البشر، وأداة لتبادل الافكار والاخبار، إنما الذي يهمنا ما يمكن ان تتركه هذه التقنية على مساعي التربية والتعليم داخل حريم الأسرة، فما دام الانترنت مهمته تحطيم الحواجز الجغرافية لنشر المعلومة بمختلف اشكالها، فإنه ـ بالضرورة- لن يعبأ بالضوابط الاخلاقية والقيم الاجتماعية المعروفة لدى الأسرة المسلمة، فهو ربما يفيد الشاب والشابة علمياً ومعرفياً، فانه في الوقت نفسه يفتح أمامه ابواب التحلل من تلكم الضوابط والقيم من خلال إثارة الغرائز التي يتفق أهل العالم كلهم على ضرورة تأطيرها وتقنينها.
وعليه؛ تجد الأمهات في الوقت الحاضر في الانترنت ما يشبه الندّ او المنافس لهنّ في العملية التربوية، وربما يشعرن بالعجز والتخلف أمام عملاق المعلومات والافكار مع جملة من الحوافز والترغيبات الآسرة للعقول.
الأم الصالحة والواعية لمسؤوليتها لن تكون وحيدة في البيت مع أولادها مطلقاً، فهي محاطة بمنظومة قيمية زاخرة بالتعاليم والاحكام، وأمامها كل البدائل والطرق للمضي قدماً في هذه المسيرة دون توقف او ارتباك.
من جهة اخرى يبدي الكثير مخاوفه من أن تنزلق بعض الأمهات نحو الشبكة العنكبوتية لتصطف الى جانب باقي افراد الأسرة القابضين، وبشدة على هواتفهم النقالة، لاسيما في ساعات المساء، الامر الذي يقلل من مكانتها كأم ومربية ومعلمة للأولاد، رغم أن البعض يتحدث عن امكانية استفادة الأم من فرصة المعلومات المجانية الزاخرة في تغذية منظومتها المعرفية بالافكار والبدائل فيما يتعلق بأمر التربية، بيد أن المخاطر تبقى قائمة في صعوبة الفرز بين الغثّ والسمين من الكم الهائل من المعلومات التي يتناقض احياناً بعضها مع البعض الآخر.
فكرة الأم المتعلمة
يذهب البعض الى إن المستوى التعليمي للأم له مدخلية واسعة في نجاح المسعى التربوي داخل الأسرة، بينما التدني في هذا المستوى، بل إن الحالة الأمية؛ سواءً الأمية المطلقة، او الأمية المعرفية والعلمية، سبب في الفشل، وابتعاد الابناء عن الأم.
قبل مناقشة هذه الفكرة، واستحضار الماضي وتجاربه الغنية والمذهلة في النجاح التربوي على يد أمهات أميّات، او قليلات المعرفة، نسأل عما اذا كان لأم تمتهن المحاماة او العمل في المجال القانوني تمكنت من أن تخرج ابناء يحترمون القانون، ويراعون حقوق الآخرين؟ أو أن أم طبيبة تمكنت من أن تنشر الثقافة الصحيّة بين افراد الأسرة؟ او موظفة بشهادات علمية مختلفة تمكنت من التأثير على سلوك وأخلاق الابناء ايجابياً؟
اذا كانت هنالك تجارب ناجحة في هذا المجال، فان الأم المدعومة بنظومة أخلاقية ودينية، تنجح في معظم الاحيان ـ إن لم نقل جميعها- في أمر التربية والتعليم داخل الأسرة، لانها تتحدث بلغة الوجدان والفطرة السليمة قبل الحديث بلغة العقل والمعلومات.
صحيح؛ إن الطفل ومن بعده؛ الشاب، ميّال الى الفضول والاستكشاف، بيد إن الآداب والاخلاق يحظيان بمساحة أوسع واكبر في حياته، لاسيما وأن هذه المساحة تتضمن العلاقات الاجتماعية الواسعة، وقبلها العلاقات داخل الأسرة.
المرأة في ميزان القرآن الكريم
عندما يتحدث القرآن الكريم عن منزلة الأبوين في الحياة الاجتماعية، يركز على الشكر وعلى الإحسان، لاسيما في العلاقة مع الأم، لقاء ما تتحمله من عناء ومشقّة الولادة والتنشئة والتربية، لكن السؤال حول معايير الشكر والاحسان للوالدين، وللأم تحديداً؟ وهل كل أم أو أب جديران بالشكر والإحسان؟
الآية الكريمة التي صدرنا بها المقال تبين معيار التضحية {وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} عند الأم، في مرحلة الحمل والولادة، ثم في مرحلة الرضاعة {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، بما يحدد مسؤولية الأم الحقيقية إزاء الابناء، وما هو مفتاح النجاح؟ فالقضية ليست بالسهلة، ولن تتحقق بالتمنيات ونثر المشاعر وإظهار العواطف.
وفي آية اخرى يحدد القرآن الكريم الحالة النفسية للأم ومشاعرها الحقيقية في حالة الحمل ثم الوضع، {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}، بمعنى إنها قبل أن تكون أمّاً عليها الاستعداد للتضحية بصحتها وبمزاجها وكل وضعها الاجتماعي والنفسي لتقدم للأسرة الطفل السليم والولد الصالح الذي سيخرج الى المجتمع عضواً مفيدا وصالحاً.
الأم الصالحة والواعية لمسؤوليتها لن تكون وحيدة في البيت مع أولادها مطلقاً، فهي محاطة بمنظومة قيمية زاخرة بالتعاليم والاحكام، وأمامها كل البدائل والطرق للمضي قدماً في هذه المسيرة دون توقف او ارتباك. ولمن يريد المزيد بامكانه مراجعة الاحاديث والروايات عن طريقة تعامل الأم مع الاطفال، بل وكيفية التصرف من أول لحظة انعقاد النطفة، وحتى اللحظات الاخيرة من الحمل، كلها ذات صلة في ولادة وتنشئة الطفل الصالح، ومن ثمّ ظهور أم ناجحة ومربية بكل معنى الكلمة.