-
تمهيد:
في العدد الماضي، وصل بنا الحوار حول هذه السورة المباركة إلى الآية الخامسة منها.
و في هذا العدد، نكمل الحوار، مع تبيين السورة كاملة .
بسم الله الرحمن الرحيم
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً
أعمال العباد
- كيف تُبلى السرائر في يوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ؟
– إن عودة الانسان إلى الحياة بعد الموت في يوم النشور ليست في دورة طبيعية كما يعود النبات في فصل الربيع ! كلا؛ إنها عودة مقصودة، كما ان خلقه في الدنيا جاء بحكمة بالغة؛ فما هو الهدف من عودته؟ إنه إظهار حقيقته؛ و ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}.
إن الدنيا دار ابتلاء واختبار، و من طبيعة الدنيا انها خليطة؛ فيها الخير و الشر، ولا يميز خيرها عن شرها بسهولة؛ بينما الآخرة دار جزاء، وكل شيء فيها ظاهر، و يعطي الله الانسان من قوة الإحساس ما يستوعب الكثير مما لم يقدر عليه في الدنيا؛ فبصره يومئذ حديد، و يذوق نار جهنم، على انه لا يستطيع ان يذوق جزءاً من مليون جزء منها في الدنيا، و يتنعم بنعم الجنة التي لا يمكنه ان يتنعم بجزء يسير منها في الدنيا.
و في الأحاديث المأثورة عن السرائر: انها أعمال العباد؛ فقد روي عن معاذ بن جبل انه قال : سألت رسول الله، صلى الله عليه و آله: ما هذه السرائر التي إبتلى الله بها العباد في الآخرة ؟ فقال : “سرائركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كل مفروض؛ لان الأعمال كلها سرائر خفية، فان شاء الرجل قال : صليت، ولم يصل، وان شاء قال : توضأت، ولم يتوضأ ؛ فذلك قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}. (1)
التوبة قبل الفوت
- لعل قوة تنجي الإنسان، أو ناصراً ينتصر له في يوم النشور؛ فلماذا نفى ذلك نفيا قاطعاً و قال : {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}؟
– في ذلك اليوم الرهيب، يقف الانسان عاريا من أي ستر، بعيداً عن أي عذر، لا يمكنه التبرير و النفاق و لا الكذب و الدجل. و أنّى له ذلك وقد اجتمعت عليه الشهود مما حوله و مما فيه! فأين المهرب؟
قد يزعم البعض انه يقدر على منع بعض الشر عن نفسه. كلا؛ فهو أضعف من ذلك؛ انه مُنح في الدنيا القوة لكي تُجرَّب إرادته، و ُيمتَحن ايمانه، أما في ذلك اليوم فهو مستسلم ذليل.
وقد يزعم البعض انه يستعين بحزبه و عشيرته و والديه و أسرته. كلا؛ انهم يومئذ مشغولون بأنفسهم. و هبْ انهم أرادوا نصره؛ فهل يقدرون؟ هيهات؛ {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} في يوم القيامة.
و اليوم، قبل ذلك اليوم، دعْنا نجأر(2) الى ربنا لعله يغفر لنا الذنوب التي اجترحناها قبل الفضيحة الكبرى أمام الملأ العظيم وقبل العذاب الشديد.
رجوع الأفلاك و الإنسان
- مرة أخرى، عاد السياق إلى القَسَم بالسماء؛ فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ}؛ ترى ما المراد بهذا الوصف؟
– إن عذاب الآخرة ليس العذاب الوحيد لمن انحرف عن مسيرة الحق، ففي الدنيا عذاب أخف منه؛ ولكنه، في مقاييسنا، عذاب شديد؛ إنه الهزيمة النكراء التي تلحق الكفار و المنافقين؛ ذلك لأنهم شذوا عن سنن الله في السماء و الارض، و كفروا بالحق الذي أنزل على النبي، صلى الله عليه وآله.
فَقَسَماً بالسماء و بالارض: ان الوحي حق، و النذير حق، و ليس بالهزل.
قالوا: الرجع يعني المطر، و استشهدوا بقول أحد الشعراء.
وقال بعضهم: بل الرجع الشمس و القمر و النجوم يرجعن في السماء، تطلع في ناحية و تغيب في الأخرى.
و قيل: بل الملائكة يرجعون بأعمال العباد.
و يبدو لي – و الكلام لا يزال للمرجع المدرسي- ان الأنسب الى السياق هو رجوع الأفلاك الى مراكزها بتناسب و نظم، دون أي تغيير في مسارها، مما يدل على رجوع الانسان الى أمر الله في يوم؛ شاء أم أبى.
حكمة خلق الأرض
- ما الحكمة في كون الأرض ذات الصدع كما قال: {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}؟
– يُقسم بالارض التي تتصدع؛ فيقول: {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}. قالوا: تصدع بالنبات، كما قال ربنا سبحانه: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً}(3).
ان الارض قـد جعلها الله ذلولاً بحيث تستقبل المطر، و تُخرج النبات، و تُمَكّن الفلاح من حرثها، و البَنّاء من حفرها، و طالب الكنز من استثارتها؛ و كذلك يدل على حكمة الله البالغة من خلقها.
ليس بالهزل
- من نافلة القول أن قول الفصل ليس هزلاً؛فلماذا جاء به في السياق، و قال: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}؟
– كما أن الطبيعة تجليات لسنن الله، و مظاهر أسمائه الحسنى، كذلك الوحي تجلٍّ لآياته، و بيان لسننه، و مظهر لأسمائه.
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}، يفصل بين الصواب و الخطأ و الحق و الباطل، كما ان يوم القيامة يوم الفصل.
وقد روي عن الامام أمير المؤمنين، عليه السلام، أنه قال: “سمعت رسول الله يقول: كتاب فيه خبر ما قبلكم، و حكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل؛ من تركه من جبار، قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره، أضله الله”(4).
وقد جاءت هذه الكلمة في هذا السياق لكي لا يلجأ الانسان من هول ما يسمعه الى التكذيب، و يقول في نفسه: لعل هذا الوعيد نوع من التخويف المبالغ فيه.
كلا؛ فليس في القرآن كلمة كاذبة او مبالغة، ولا حرف ولا إيفاء حرف؛ انه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
و هكذا يسد السياق كل منافذ الفرار النفسي من مواجهة الحقيقة الكبرى التي تنتظر الجميع (حقيقة الجزاء)؛ فلا إخفاء، و لا تبرير، ولا محاولات الاستنصار بالآخرين او التهرب من الحقيقة بتكذيبها.
للكفر استراتيجية!
- الكيد الذي ورد في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} هل بمعنى الكيد بالرسول، صلى الله عليه و آله، و الرسالة؟
– لا يقتصر الكفـار على تكذيب رسالات الله للتهرب من الحقائق التي تذكر بها، و انما يحاربونها بشتى ألوان الحرب حتى يصنعوا حجابا نفسيا و اجتماعيا بينهم و بينها؛ فلا يتأثروا بها أبدا.
نعم؛ {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً}. و الكيد هــو: التلطّف لبلوغ الهدف بأساليب مختلفة، و يستخدم في الشر و الخير، و ان كانت الكلمة توحي بالشر. و الكلمة المرادفة لها في أدبنا اليوم: الخُطة، و يبدو ان مجمل مساعي الكفار و من هم في خط النفاق و الفسق تتجه نحو تغيير مسار الحق، و إخفائه بالباطل الذي يبتدعونه، و الصد عنه بالمكر و الكيد؛ انه الخط الاستراتيجي للكفر.
ومن خصائص الكيد التوسل ببعض الخطط الخفية التي لا تبلغ الهدف إلا عبر مراحل عديدة، و قد يضع الكفار خطة خمسية او عشرية او حتى بعيدة المدى لعلها تبلغ هدفها بلا عقبات؛ لانها- في زعمهم- خطة محكمة سرية و متواصلة الحلقات.
بيد ان خطط الكفار لا تهدف الرسول، صلى الله عليه و آله، كشخص، ولا المؤمنين كطائفة فحسب؛ بل تهدف الرسالة التي يدعون اليها، و غريمهم في ذلك لن يكون المؤمنون او الرسول، صلى الله عليه و آله، و حسب؛ بل رب العزة جبار السماوات و الارض سبحانه تعالى.
كيد الله
- كيف هي صورة كيد الله كما في صريح قوله تعالى: {وَأَكِيدُ كَيْداً} ؟
– إذا كان الكفار يسعون لبلوغ هدفهم عبر خطط متناهية في الدقة بزعمهم؛ فإن كيد الله متين. و تسألون: كيف يكيد الله لهم؟ انه سبحانه يُهيئ اسباب تدميرهم على حين غفلة منهم.
أرأيت كيف يدبر الشرطة، مثلا، خطة للايقاع بالمجرمين (مما قد تصوره الأفلام البوليسية)، و يخطط المجرمون لجريمتهم باتقان و يخطط الشرطة، و المجرمون لا يعرفون شيئا عن خطط الشرطة؛ بينما رجال الشرطة يعرفون ما يجري هناك؟!
وفي ساعة الصفر حينما تبلغ خطط الكفار مرحلة التنفيذ، و يكادون يسطون بالنبي، صلى الله عليه و آله، و بالمؤمنين، تكون أسباب تدميرهم قد تهيأت ايضا، و تتجلى- ساعتئذ- قدرة الله؛ إنها تأخذهم أخذاً وبيلا؛ و ذلك قوله تعالى: {وَأَكِيدُ كَيْداً}.
عامل الزمان
- لماذا الإمهال؟ ثم الإمهال القليل كما في قوله تعالى: {فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}؟
– ان خطط الكفار و كل خطة تأخذ عامل الزمان في الحسبان؛ و لذلك فان من يكيد كيداً لا يمكنه ان يلغي الزمان، و ينبغي ان يعرف المؤمنون ذلك، ولا يستعجلوا في تنفيذ خطط الرسالة، ولا يقلقوا من تأخير النصر؛ لان هناك مهلة معينة لابد ان تنتهي قبل أخذ الكفار؛ و لذلك قال: {فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ} مهلة بعد مهلة، و فترة بعد فترة؛ فلعل تغييرا يطرأ على تنفيذ الخطة؛ و لكنها –بالتالي- لن تكون مهلة طويلة؛ و هو المراد بقوله تعالى: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}؛ أي: مهلة قليلة و لطيفة و بلا صخب او ضوضاء.
اسباب الإمهال
- و لكن؛ لماذا يمهل الله الكفار ؟
– أولا: لأنهم ايضا بشر مخلوقون، و ان الله سبحانه يريد امتحانهم كما يمتحن بهم، و لعلهم يرجعون .
ثانيا: لان للصراع بين الحق و الباطل فوائد شتى في بلورة رؤية المؤمنين، و تزكية قلوبهم، و تمحيص نفوسهم، و تطهير صفوفهم من المنافقين.
و الله العالم.
—————–
1. نور الثقلين،ج5،ص552.
2. أي:نتضرع. جأر إلى الله : تضرع إليه و استعانه .
3. سورة عبس، الآية26.
4. تفسير القرطبي، ج20،ص11.
—————–
تبيين سورة الطارق كاملة
{وَالسَّمَاءِ}: قَسَما بالسماء (وَ): قَسَماً بالنجم {الطَّارِقِ} الذي يظهر ليلا؛ و هذا قَسَم ثان {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} وهذا سؤال للتعظيم و الإلفات إلى أهمية القضية، و الطارق هو {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}: المضيء الذي يثقب ضوؤه جدار الظلام، و جواب القسمين (إنْ): ما {كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا}: إلا {عَلَيْهَا} مَلَك {حَافِظٌ} يحفظ أعمالها، و يحرسها من الأخطار {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ} نظر الإعتبار {مِمَّ خُلِقَ} لكي يهتدي إلى حقيقة نفسه؛ فإنه {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ}؛ أي: ينبعث {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} و هو عموده الفقري {وَالتَّرَائِبِ} وهي عظام صدره حيث سيُنشِئُه خلقاً آخر (إنَّهُ)؛ أي: إن الخالق لهذا الخلق و هو الله تعالى (عَلَى رَجْعِهِ)؛ أي: على رجع الإنسان إلى الحياة بعد الموت {لَقَادِرٌ}، كما خلقه أول مرة؛ ويكون ذلك {يَوْمَ تُبْلَى} فيه {السَّرَائِرُ}؛ و هي أعمال العباد التي تظهر على حقيقتها {فَمَا لَهُ}؛ أي: للإنسان في ذلك اليوم و هو يوم القيامة (مِنْ قُوَّةٍ)؛ أي: ولي يقدر على منع الشر عنه {وَلا نَاصِرٍ} ينصره؛ فهو في ذلك اليوم، مستسلمٌ ذليل {وَالسَّمَاءِ}: قسماً بالسماء، و هذا قَسَمٌ ثالث {ذَاتِ الرَّجْعِ}؛ حيث ترجع الأفلاك إلى مراكزها بتناسب و نظم {وَ الأَرْضِ}: قسماً بالأرض، و هذا قَسَمٌ رابع { ذَاتِ الصَّدْعِ} تُخرج النبات و المعادن؛ و جواب القَسَمين: {إنَّهُ}؛ أي: القرآن {لَقَوْلٌ فَصْلٌ}؛ يفصل بين الحق و الباطل {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}؛ فليس فيه كلمة كاذبة أو مبالغة (إنَّهُمْ)؛ أي: الكفار {يَكِيدُونَ كَيْداً} بالرسول، صلى الله عليه و آله، و بالرسالة {وَأَكِيدُ كَيْداً}؛ فأهيئ أسباب عذابهم على غفلة منهم {فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ} مهلة بعد مهلة {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً}؛ أي: مهلة قليلة؛ و لن تكون مهلة طويلة.