ما يزال القرآن الكريم يضخ التجارب العملية والقريبة الى فطرة ونفوس البشر بغية التوصل الى الحقائق والايمان بها لتحقيق افضل النتائج في الحياة الدنيا، ثم نيل رضوان الله –تعالى- في الآخرة.
تارةً تكون هذه التجارب فردية، يبينها لنا الكتاب المجيد عبر الانبياء والمرسلين والصالحين، مثل؛ نبي الله ابراهيم، عليه السلام، وتارةً اخرى تكون في حياة المجتمعات والأمم مثل؛ قوم شعيب، عليه السلام، وهم اصحاب الحِجر.
ولعل في التسلسل القرآني حكمة بالغة لنا بأن تكون سورة الحجر بعد سورة ابراهيم، وتقع في أضواء تفسير لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي –دام ظله- وتخرج بين دفتي كتاب رائع ضمن سلسلة بيّنات من فقه القرآن، صدر حديثاً وهو يعالج مشكلة الانسان والمجتمع في الوصول الى الحقائق الإلهية، ويبحث في إزالة التحديات والعقبات في الطريق.
- ابراهيم وتجربة معرفة ربه ونفسه
يبين سماحة المرجع المدرسي خطوات الايمان والتوحيد التي اتبعها نبي الله ابراهيم، وقد وصفه في مؤلفات واحاديث مختلفة بأنه “أبو التوحيد”، وكيف أنه بذل جهوداً مضنية لمعرفة ربه ونفسه ايضاً، و”للوصول الى الهداية يحتاج البشر الى ان يحدث تحولاً في داخله لاستيعاب تلك الحقائق بهداية الله سبحانه”، ولم يكن ليصل الى هذه المرتبة عند الله، ويكون خليله –تعالى- لولا أنه “هيأ جسده للاحتراق بنار نمرود”، فصار بمفرده أمة قانتاً لله، كما وصفه القرآن الكريم.
وانه لجدير بأن يكون رمزاً للتوحيد وقدوة ونموذج يحتذى به للبشر الى يوم القيامة، لذا نجده “يتكرر في القرآن كل مرة من زاوية خاصة، ذلك لأن البشر بحاجة الى التذكر الدائم لهذه الحقيقة، وحين تتجلى تلك الحقائق في القلب يتسامى الانسان ويتكامل حتى يصل الى تلك الدرجات الرفيعة التي وصل اليها الانبياء العظام”.
ويذكر سماحة المرجع المدرسي في تفسيره سورة ابراهيم بالتوفيق الإلهي للهداية والايمان، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، والتحذير من مغبة الاغترار بالنفس القاصرة، فبعد “توفر كل العوامل الظاهرية من الكتاب وسعي النبي في مجال التعليم والتزكية، يبقى اللطف الخفي من الرب المتعال ضرورياً لايجاد التحول عند الفرد، واستخدام كلمة “ربّهم” هنا للتدليل عن ان المُربي الذي كان لطفه شاملاً لكل ابعاد حياة الانسان، سيشمل الفرد بهدايته ايضاً”.
وم نجد كيف يعكف علماء البشر في كل الدول للبحث عن الفايروس التاجي (كورونا) الذي غيّر ملامح الحياة في المعمورة، ولولا أن الفايروس يخضع لنظام لكانت كل البحوث عبثية
ومن جانب آخر يذكرنا سماحته في هذا السياق: بأن “لا يجوز لنا نحن البشر ان نتكئ على رحمة الله وننسى عقابه ونأمن من انتقامه، لان تجربتنا في الحياة كشفت لنا عن وجود الآلام والمآسي الى جانب البركات والرحمات، ولكن بالرغم من ذلك نجد البعض يغترون بالجانب المخملي من الدنيا لانهم يفضلون العاجلة على الاخرة”، {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
وثمة سؤال كبير وقديم طرحه الفلاسفة والعلماء والمفكرون؛ ما هي سبل المعرفة؟
القرآن الكريم يجيب في جانب على هذا السؤال الكبير في الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}، “فكلما ضعف ايمان الانسان بالآخرة ضعفت معرفته بالدنيا، وضعفت معرفته بنفسه، بل؛ وقلّت معرفته بربه، وهكذا لن تكتمل المنظومة الثقافية عند الانسان إلا بعد الايمان بالاخرة.
في مقابل هذا النور الساطع نحو المعرفة الإلهية نلاحظ المحاولات البائسة من البعض لإطفاء نور الله –تعالى- وفي مقدمتهم الحكام الطغاة الذين يجدون في هذا النور ما يمزق ظلمة التضليل والتسطيح، ويفضح شرعيتهم المزيفة ويكشف ظلمهم وعدوانهم، لذا “حينما يعجزون عن القضاء على الدين فانهم يسعون لتحريفه، انهم يريدون الدين للدنيا، دينٌ يدعم مصالحهم ويبرر لهم فسادهم، واكثر ما عانت البشرية من تحريف الدين الحق، ويبدأ الانحراف من تفضيل الحياة الدنيا ولكنه يتدرج في الضلال”.
- النبي ابراهيم وثقافة الشُكر
الى جانب النعم المادية الظاهرية، من مأكل وملبس ومسكن، وتسخير الرياح والمياه والشمس والقمر وغيرها من عناصر الطبيعة للانسان، فان ثمة نعمة أخرى ربما تغيب عن الاذهان، ولا تقل أهمية ومدخلية في حياة الانسان (الفرد والمجتمع)، وهي وجود الانبياء والمرسلين والأولياء الصالحين، “وهو أحد مصاديق قوله سبحانه في هذه السورة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، لما في هذه النعمة من أبعاد مختلفة منها: كونهم وسائط للفيض الإلهي، ونتوسل بهم الى الرب سبحانه وتعالى، والبعد الثاني؛ اتخاذهم قدوات في حياتنا، وباتباع نهجهم يصل البشر الى الدرجات العليا، كالحواريين من اصحابهم”.
وحتى نحقق هذا الطموح ما علينا إلا النظر في كيفية ممارسة الشكر لدى هؤلاء العظام، وفي مقدمتهم؛ نبي الله ابراهيم، و”عند التدبر في الآيات القرآنية -38 الى 41من سورة ابراهيم- نجد أن أحد اسباب اختيار الانبياء هو الشكر، وقد ورد ذلك في عدة آيات قرآنية منها قوله تعالى في سورة الانعام: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. نعم؛ إن الله منّ على هؤلاء بأن وفقهم لقبول الرسالة، ولكن ليس عبثاً بل لأنه عرف أنهم أشكر من غيرهم لنعمة الرسالة، و أي فرد كان شاكراً لله وعارفاً بحق الرسالة فسوف يوفقه الله سبحانه ايضاً”.
- ظهور وانهيار الحضارات، أصحاب الحِجر مثالاً
من أهم اسباب انهيار الحضارات في منطق السماء؛ الانغماس في الآمال الطويلة والبعيدة في الحياة الدنيا مما يخلق شعوراً مرهفاً بالخلود والأنس وأن الحياة قائمة ودائمة لا شيء بعدها مطلقاً، فلا موت ولا فناء، ولا حساب في عالم آخر.
وهذه كانت مشكلة “اصحاب الحجر” في تفسير سماحة المرجع المدرسي الذي ينبه الى أن قوم عاد، وهم أنفسهم اصحاب الحجر، كانت حضارة “في ريعان شبابها وفي منتهى قوتها، فان انهيارها مدعاة للتأمل والاعتبار، فقد اعتمدوا على بيوتهم المنحوتة من الصخور فلم تغن عنهم من الله شيئاً”.
ويشير سماحته في بداية تفسيره لهذه السورة أن حادثة انهيار حضارة عاد وقعت في الجزيرة العربية “وقد تفاعلت العرب مع ما جرى لعاد وانتهاء حضارتهم، إذ لم يكن حدثاً عادياً يمرون عليهم مرور الكرام، بل كان يمثل صدمة أثارت عقولهم، وجاء القرآن ليبين اسباب هلاكهم وما جرى لحضارتهم”.
من أهم اسباب انهيار الحضارات في منطق السماء؛ الانغماس في الآمال الطويلة والبعيدة في الحياة الدنيا مما يخلق شعوراً مرهفاً بالخلود والأنس وأن الحياة قائمة ودائمة لا شيء بعدها مطلقاً، فلا موت ولا فناء، ولا حساب في عالم آخر
ويكشف سماحة المرجع المدرسي في سياق الحديث عن مشكلة اصحاب الحجر، بأن لولا طول الأماني والاستغراق في الحياة الدنيا لتجنبوا السقوط “لكن مشكلة الكفار أنهم يعيشون دائماً أمنيات بعيدة دون عزم على الايمان، وفي الآخرة يودّون أن {لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}، ويصف سماحته الأمل بأنه “مسكناً لوخز الضمائر، وحجاباً لوهج العقول، ذلك أن فطرة الانسان تدعوه للأخذ باحتمال الخطر”، وهذا الخطأ تحديداً ما يسقط فيه الانسان والبشرية على طول الخط، وما نجده من كوارث ومآسي وويلات من هذه المغامرات المتتالية دون النظر الى العواقب.
- فايروس كورونا و التمرّد على النظام الإلهي
في الوقت الذي يبين القرآن الكريم في عديد آياته الكريمة السبل الواضحة لحياة أفضل وأرقى للانسان، يحذر في الوقت نفسه من {السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وما أوضح هذه السبل من تحديد السماء لنظام متكامل ومحكم للعالم والكون والحياة بما يغني الانسان طوال حياته، ولا يجعله في حيرة من أمره أبداً، بينما الملاحظ هو العجب العجاب! تخبط البشرية في الحروب والكوارث وتكبد الخسائر المادية والبشرية باستمرار، واستنزاف الطاقات والقدرات بشكل مريع يقابله حرمان وتخلف واسعين.
وعندما يصل سماحة المرجع المدرسي الى الآيات التي تذكر أصحاب الأيكة، واصحاب الحجر، يقول: “بنظرة أولية نعرف أن لهذا الخلق نظاماً بالغ الدقة يسشمل كل شيء فيه، بدءاً من الاشياء الظاهرة الثقيلة كالبرّ والبحر والنجوم والشمس والقمر، مروراً بالاشياء الدقيقة كالغازات والضوء والرياح، وصولاً الى خلايا جسم الانسان والموجودات المجهرية، فلا ننظر الى بُعد من ابعاد الخليقة إلا ونكشف وجود نظام بالغ الدقة وحكيم”.
ثم يعرّج سماحته الى مثال حيّ من واقعنا الحالي فيما يتعلق بالعبث بالنظام الإلهي بأن “اليوم نجد كيف يعكف علماء البشر في كل الدول للبحث عن الفايروس التاجي (كورونا) الذي غيّر ملامح الحياة في المعمورة، ولولا أن الفايروس يخضع لنظام لكانت كل البحوث عبثية، ولعل هذا النظام هو الذي يُسميه القرآن الكريم بالحق”، ويضيف سماحته مستطرداً: “نحن البشر نعيش ضمن هذه الخليقة وعلينا أن نعرف أن لهذه الخليقة انظمتها، وهي مخلوقة للحق، وكلما استطاع البشر أن ينظم حياته على أساس الحق يستطيع أن يعيش بأمان”.
حينما يعجز الحكام الطغاة عن القضاء على الدين فانهم يسعون لتحريفه، انهم يريدون الدين للدنيا، دينٌ يدعم مصالحهم ويبرر لهم فسادهم
و في سياق تفسيره، يورد سماحته مثالاً في اصحاب الأيكة “الذين كانوا يعيشون في بلدة مليئة بالماء والاشجار واقعة بين الحجاز والشام، وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأصيبوا بالغرور والغفلة، فأدى بهم ذلك الى الاحتكار والفساد في الارض، ومن ابرز فسادهم؛ خيانتهم في المكيال والميزان”، وفي رواية عن الامام زين العبادين، عليه السلام، بأن أول من ابتكر الميزان هو نبي الله شعيب، فعلّم قومه المكيال والميزان حتى لا يُظلم أحد، ولكن عناد البعض وإصراره على الجشع والطمع، أدى به الى الانحراف والكفر بقيم السماء، فكانت عاقبتهم أن {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}.
وكذا كان مآل أصحاب الحِجر الذي كذبوا اكثر من رسول؛ {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}، “ومما يبدو أن أصحاب الحجر –وهم قوم ثمود- بدأت حياتهم الاجتماعية بفهم سنن الله في الحياة ومنها ضرورة الإصلاح، وتسخير امكانات الطبيعة من اجل الاهداف النبيلة، إلا أنهم بعد نمو مدنيّتهم، وتواتر نعم الله عليهم فسدوا و أفسدوا، فجاءت رسالة الله تحذرهم من عاقبة الإفساد، وتذكرهم بأن هذه النعم التي يرونها ليست ذاتية ولا أبدية، إنما هي آلاء الله، كانت عند قوم فأهلكوا بسبب فسادهم وافسادهم فأورثها الله لهم”، ولكن مشكلة البشر الأبدية؛ عدم الاعتبار.
أما قصتهم مع نبيهم صالح، وكيف انهم استجاب لطلبهم بالمعجزة، وكيف تعاملوا مع معجزة الناقة وفصيلها، فهي معروفة، وبامكان القارئ الكريم مراجعة التفاسير والبحوث القرآنية التي تحدثت عن هذه الواقعة تحديداً لما فيها من العبر البالغة لقوم أنعم الله عليهم، فلما كفروا وانحرفوا بطغيانهم وغرورهم أنزل عليهم العذاب الأليم، فكانت العاقبة الخسارة في الدنيا والآخرة.