إذا نظرت الى النار التي تحرق الحطب فماذا سترى؟
إنك ترى النار، وترى النور، وترى الحرارة والدفء أليس كذلك؟
لكن أمعن النظر قليلاً فانظر إلى ما تخلفه هذه النار من الرماد، فإنك نظرت إلى معلول الفعل ولم تنظر إلى أثره!
هكذا هي الأفعال كلها، فإنا ننظر إلى جانب منها فقط، وهو ما يعبر عنه بالنتيجة المباشرة، ولا ننظر إلى ما يُخلف هذا الفعل، ولو كان صغيراً، من آثار.
-
آثار الأعمال
قسّم الفقهاء، الذنوب إلى صغائر وكبائر، جاعلين المقسم في ذلك، وعيد الله بالنار على مرتكب الكبيرة؛ فالزنا والقتل مما أوعد الله تعالى مرتكبها بالنار، وأما الصغيرة فغير ذلك.
إلا أن الذنب الصغير قد يكون كبيرا، كما في الذنب الصغير الذي يصرّ مرتكبه عليه، إذ المعيار هي الطاعة والمعصية، ولا فرق بين أن يعصي الإنسان ربه في أمر صغير أو كبير مادام مصرّاً على المعصية، وكما في الحديث الشريف: “لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار”.
بيد أن هذا التقسيم إنما لاحظ الذنب من زاوية أثره الأخروي، ومن الضروري أن نلاحظ الذنب من لحاظ أثره الدنيوي أيضاً، أليست الذنوب تختلف بحسب ما تخلّف من آثار في هذه الدنيا أيضاً؟
وهذا هو مفتاح فهم كثير من الحقائق المرتبطة بغفران الله –تعالى- للذنوب، فالمرء قد يقع في معصية الله تبارك وتعالى لكن؛ هذه المعصية تكون فيما بينه وبين ربه، لكن الآخر قد يعصي الله ويكون في تلك المعصية تعرض لمال شخصٍ، أو لعرضه، أو لمكانته وشخصيته، وقد يكون الأمر أكبر من ذلك، فيكون في المعصية هتك لدين الله وحرماته.
-
التعرض لمقام المرجعية الدينية
جمعٌ من الأعلام ـ كما يذكر أحدهم في كتابه ـ زاروا مرجعاً من مراجع الدين كان يرقد في المشفى في أواخر حياته، يقول: قلت له: نطلب العذر منك، فإنا كثيراً ما تعرضنا لك بالغيبة.
فأجاب: أنا فيما يرتبط بنفسي أتجاوز عنكم، ولكن هناك ذنب أعظم يجب أن تستغفروا الله منه، وهو أنكم هتكتم بذلك حرمة مرجع ديني، وهذا تعرض لمقام المرجعية الدينية، وهو أمر ليس بيدي، ويجب عليكم أن تطلبوا التوبة من الله في ذلك.
نعم؛ قد يكون لفعلي الصغير، بل ربما تركي للفعل أثر كبير بلحاظ أثره، فقد تكون كلمة قيلت، سببت غواية آلاف من الناس، أو تصرف خاطئ ينتهي إلى ما لا يُحمد عقباه، ومن هنا فإن التوبة عن هذا الفعل لا تكون كالتوبة عن تلك المعصية التي كانت بين المرء وربه.
-
التوبة الفردية، خشوع الإيمان
قد يكون وعي الفرد ناقصاً، وعلمه محدوداً، ولم يؤت فرصة للتوجيه الكافي، فيرتكب بجهالته (وليس بجهله) ذنباً، والفرق بين الجهل والجهالة، أن الجهل عذر شرعي، لكن الجهالة ليست بعذر فهو المقصر في ركوب الجهل.
ولا شك أن الله تعالى قد سبقت كلمته بالرحمة لعباده، كيف لا، وهو الذي وعد عباده بالمغفرة والتوبة، لكن شرط المغفرة الإلهية أن ينتهي الإنسان بتوبته إلى خشوع الإيمان، وهنالك سيرى واسع رحمة الله.
في الحديث عن الإمام الباقر، عليه السلام: “مَا اغْرَوْرَقَتْ عَيْنٌ بِمَائِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهَا عَلَى النَّارِ وَ لَا فَاضَتْ دَمْعَةٌ عَلَى خَدِّ صَاحِبِهَا فَرَهِقَ وَجْهَهُ قَتَرٌ وَ لَا ذِلَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.
وهذه المرحلة ـ أي خشوع الجوارح ـ لا يبلغها المرء إلا بعد بلوغه مرتبة خشوع القلب وكما يقول الإمام زين العابدين، عليه السلام: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خُشُوعَ الْإِيمَانِ قَبْلَ خُشُوعِ الذُّلِّ فِي النَّار”.
قد تسأل: ما هي علامة خشوع الإيمان؟
النبي، صلى الله عليه وآله، أجاب عن ذلك في إجابته على أسئلة شمعون بن لاوي بن يهودا، وهو من حواريي عيسى بن مريم، عليه السلام، فقال: “أما علامة الخاشع فأربعة: “مراقبة الله في السر والعلانية؛ وركوب الجميل؛ والتفكر ليوم القيامة؛ والمناجاة لله”.
-
التوبة الاجتماعية، إصلاح وتوبة لله
لو لم يكن للذنب أثر إلا المؤاخذة الأخروية، فإن الغفران الإلهي سينال التائب الخاشع، لكن ماذا لو كان الذنب له آثار في هذه الدنيا؟
فهل يقبل الناس منك الإعتذار لو أتلفت أموالهم؟ كيف وقد فسد البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؟ وهل تكفي التوبة، والحال هكذا؟ كلا؛ وألف كلا، فلو خرج الدماغ من المُقلتين ما كان ذلك جابراً لما فسد!
ومن هنا فقد جُعل الإصلاح توبة ذلك، وهو ما يعبر عنه بالتوبة الإجتماعية، أي رفع الأثر الإجتماعي لما حصل.
يقول تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم}.
إن رحمة الله وغفرانه لا يتحصلان بالتوبة فحسب، بل يجب أن يلي ذلك الإصلاح أيضاً.
-
التوابون مثالاً
في العام 65 للهجرة، إنجلت الغبرة في منطقة عين الوردة، أواخر شهر جمادى الأولى، عن أربعة آلاف شهيد في معركة خاضها جيش التوابين الذين خرجوا من الكوفة يريدون الشام نادمين لعدم نصرتهم سيد الشهداء، عليه السلام، وهدفهم الثأر لدمه الشريف من الأمويين القتلة.
كانت توبة هؤلاء هي الخروج والشهادة في سبيل الله، لكن هلّا اكتفوا بالصلوات والدعاء والإستغفار للتوبة؟
أليس الله تبارك وتعالى، واسع المغفرة والرحمة؟ ألم يكن من الأفضل أن يجلسوا في فناء مسجد الكوفة معتكفين لله تعالى سائلين منه الغفران؟
ثم؛ هل كتب الله على المسلمين قتل أنفسهم توبة، كما كتبها على بني إسرائيل من قبل حين عبدوا العجل فأمرهم الله –تعالى- بذلك حتى أن الولد قتل أباه والأب قتل ابنه؟
كلا؛ فإن هذه الحركة أرادت إصلاح ما فسد في الأمة، ولعل الكثير من هؤلاء لم يكونوا قد شاركوا بالفعل في قتل سيد الشهداء، بل ولم ينصروه قصوراً، إلا أن شهادته، عليه السلام، وبهذه الطريقة الفجيعة تقتضي توبة جماعية تهز ضمير الأمة لتصلح ما فسد منه بفعل بني أمية.
ولو درسنا حركة التوابين نجد أن هذه الحركة لم تكن تنوي السيطرة على الحكم، كيف وقد قام مع سليمان بن صرد الخزاعي، ستة عشر ألفاً في بادئ الأمر، وهو عدد كافياً للسيطرة على الكوفة التي كانوا فيها، لكنهم خرجوا يريدون الشام، وكان قوام هذه الحركة العباد والفقهاء والزهاد، فكانت عملية استشهادية من أجل إيقاظ ضمير الأمة.
فكانت حركتهم حركة إصلاح ما فسد في الأمة، وهي الحركة التي بشر الله تعالى من يسير فيها بالغفران والرحمة فقال تعالى: {ثُمَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم}، والجميل في الآية أن الغفران والرحمة الإلهية المستمرة أبداً، جُعلت مؤكدة بأداتي تأكيد في الآية للدلالة على أن التوبة وحدها قد تقبل وقد لا تقبل، إلا أن من سلك طريق الإصلاح وضحّى في هذا الطريق فإنه سينال هذه الرحمة حتماً.