كما تختلف الأمم في عاداتها وثقافاتها، تختلف في أسمائها ومسمّياتها، ولأن الاسم هو عنوان الإنسان فردا أو جماعة، فله أهميته في حياته وحياة الأمة التي ينتمي إليها، والأسماء وإطلاقها في معظم الأحيان خاضعة لبيئة الفرد ومجتمعه، ومن السهل في عالم التقنية الحديثة التعرف على هوية الفرد وموطنه من اسمه ولاسيّما إذا كان للأسماء روي أو جناس مثل “أوف” لـ: قادروف أو محمدوف، ومثل “ينهو” لـ: رونالدينهو أو روبينهو، ومثل “سون” لـ: إريكسون ويوهانسون، ومثل “آء” لـ: علاء وسناء، ومثل “يان” لـ: وارطانيان أو مختاريان، فالأول يوحي للسامع أن الفرد من دول ما وراء النهر، والثاني من امريكا الجنوبية والثالث من الدول الاسكندنافية، والرابع من العرب وعموم الدول الإسلامية، والخامس من أرمينيا، وهكذا في بقية المجتمعات التي تسالمت على إطلاق الإسماء على المواليد من وحي البيئة أو المعتقد وعموم ثقافة المجتمع وما يحيط به.
وحيث لا تصل الرسالة الى صاحبها إذا انعدم العنوان أو جهل المكان، فلا يمكن مخاطبة الشخص أو المناداة عليه إذا لم يكن يمتلك اسماً أو يجهل المنادي اسمه، فالاسم عنوان وهوية ورسم وشخصية، وما حسن كان له قوة جذب مطردة وما ساء منه كانت له قوة دفع مؤكدة، فالنفس الإنسانية كما تتوق إلى الجمال الظاهري الجسماني والجمادي وتنشد إليه وتنعم نظرها به، تألف الإسم الموسيقي ذا الدلالة الجميلة وتشنّف سمعها به، والعكس صحيح، على أن ميزان الإنشداد إلى الإسم والإبتعاد عنه تختلف خطوطه البيانية صعودا ونزولا حسب طبيعة المجتمع والبيئة، فما يكون حسنا إطلاقه في بيئة لا يستحسن في بيئة أخرى، فبيئة الصحراء غير المدينة، والجبل غير السهل، وكلما زحفت ثقافة المدينة والتمدن على القرية والصحراء والجبال كلما أخذت الأسماء جمالية ورونقا، فصعب يتحول الى سهل، وحرب إلى سلام، وصخر إلى يسر، وعبد اللات إلى عبد الله، وهلمّ جرّا.
ولعل واحدة من العوامل المساعدة على رقي الفرد أو تخلفه في معترك الحياة هو الإسم الذي وضعه له ولي أمره، فبعض الأسماء لصاحبه أن يتباهى به بين أقرانه ويتسلق سلم الحياة بتؤدة، وبعض الأسماء يتوارى به صاحبه وينكفئ على نفسه تحجزه على بلوغ سنام الحياة ورقيها، على أن الأمر ليس بقاعدة، ولكنها ظاهرة للعيان يلمسها كل صاحب ذوق، وقد وجدت من خلال العمل في قسم الأبحاث والتحقيقات في دائرة المعارف الحسينية أن عددًا من الأعلام يحجم في سيرته عن ذكر اسم أبيه أو جده، بل وبعضهم يمتنع عن الإستجابة إن طُلب منه في سياق بيان السيرة الذاتية حتى لا يقع في مخمصة الإحراج، وأذكر في هذا الخصوص أن أحد المفكرين العراقيين المعاصرين كان يمتنع عن ذكر اسم أبيه في المحافل العلمية، ولما كنت بحاجة الى بيان سيرته الذاتية في أحد الأعمال الكتابية، سعيت في الامر فخارت قواي البحثية أو كادت حتى علمت في بعض السنين أنه مدعو إلى مؤتمر إسلامي يعقد في العاصمة البريطانية لندن، ومقتضى الدعوة أن يبعث بصورة عن جوازه من أجل استحصال سمة الدخول (الفيزا)، وقد فعل مما اتاح لي الإطلاع على صورة من جواز سفره ومنه عرفت اسم أبيه، وقد عذرته عندما عرفت بإسم والده وتساءلت مع نفسي: كيف لأب أن يسمي ابنه بهذا الإسم المندك بالسوداوية كسواد القدر، فإذا كان الإبن يشعر بالحرج بالشديد لذكر اسم والده في المحافل العلمية، فكيف لصاحب الإسم، وكيف شعوره عندما كان ينادى به على الملأ.
حقيقة التسمية وما يكتنفها يتابع أحكامها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي في كرّاس “شريعة التسمية” الصادر حديثا (2019م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت، في 56 صفحة مكتنفا على (74) مسألة شرعية و(28) تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر ومقدمة للمعلق وتمهيد للكرباسي و(38) حديثا شريفا تهدي ولي الأمر إلى قُلّة الأسماء سمينها وغثّها.
-
شروق الأسماء وكسوفها
في العادة يأتم الإنسان في فعاله وسلوكه بغيره إتباعا أو تأسيا أو تماثلا، سيان بين الخير والشر لا فرق، وفي ميدان الخير يمثل النبي أسوة حسنة، والصالح أسوة، والعظيم أسوة، والفنان أسوة، فكل مبدع في حقله هو أسوة، ومن ثمار الأسوة أن يطلق الأب على ابنه اسم من يعتز به من عظيم أو مبدع، ومن الأسوة أن يتبع المرء ما يدعو إليه صاحب الأسوة.
وفي مقام التسمية، فإن الأسوة الحسنة هو إتباع من يدعو إلى الجمال والأسماء الحسنة، وهذا ما كان عليه ديدن نبي الرحمة محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، في إطلاق الأسماء على بنيه وأسباطه وأصحابه أو يغير أسماء المسلمين الجدد نحو الأحسن، فكيف اذا جاء الإطلاق من الرب الجليل؟، فهو إشارة إلى أهمية التسمية، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (فالتسمية ضرورة بدأها الله جلّ وعلا وعلّمها خلقه وسنَّ التعامل بها وعلّمهم ذلك، وحثّهم على تسمية الأشياء والأعيان بأفضل الأسماء وأحسنها).
وللتسمية دور كبير في حياة الفرد والأمة كما يضيف الكرباسي: (وردت التسمية في القرآن الكريم إحدى وسبعين مرة، يقول سبحانه في محكم كتابه الكريم: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}، (سورة البقرة، الآية: 31)، ليتمكن من التفاهم معه كما يمكّنه من التعامل معها، وقال جلّ وعلا: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}، (سورة الأعراف، الآية: 180)، وهو الذي سمى الأنبياء بأسمائهم، فسمّى آدم قبل أن يخلقه وناداه به حينما قال: “يا آدم أنبئهم بأسمائهم” البقرة: 32، وسمّى يحيى النبي بيحيى حيث يقول: “يا زكريا إنّا نبشِّرك بغلام اسمه يحيى” مريم: 7، وسمى عيسى إذ قال جلّ وعلا: {إنَّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى}، (سورة آل عمران، الآية: 45)، وسمّى النبي الخاتم حيث يقول: {ومبشِّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، (سورة الصف، الآية: 61)، كما إنه اختار تسمية المسلم حين قال جلّ جلاله: {هو سمّاكم المسلمين من قبل}، (سورة الحج، الآية: 78).
ومن هذه النصوص ومن غيرها يُدرك أهمية التسمية حتى بالنسبة للسقط، فالأمر لا يتوقف على المولود حيّا، وفي الحديث النبوي الشريف: “سمّوا أسقاطكم، فإن الناس إذا دعوا يوم القيامة بأسمائهم تعلّق الأسقاط بآبائهم فيقولون لِمَ لَمْ تسمّونا؟ فقالوا يا رسول الله؛ هذا مَن عرفناه أنه ذكر سمّيناه بإسم الذكور، ومَن عرفنا أنها أنثى سمّيناها بإسم الإناث، أرأيت مَن لم يستبن خلقه كيف نسمّيه؟ قال: بالأسماء المشتركة مثل زائدة، وطلحة وعنبسة وحمزة”.
بل وأكثر من ذلك أن قام الإستحباب على إطلاق التسمية على الجنين قبل أن يولد، وفي الحديث عن الإمام علي، عليه السلام: “سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فإن لم تدروا أذكرٌ أم أنثى، فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى، فإن أسقاطكم إذا لقوكم في يوم القيامة ولم تسموهم يقول السقط لأبيه: ألا سمَّيتني وقد سمَى رسول الله، صلى الله عليه وآله، محسنًا قبل أن يولد”، ويعلق الفقيه الكرباسي على الحديث في إلتفاتة علمية لطيفة: “يُشعر من كلام علي، عليه السلام، إمكانية معرفة جنس الجنين قبل أن يولد”، وهو ما تحقق بالفعل في الفترة الأخيرة عبر جهاز كشف خاص بالأمواج الصوتية يُعرف بالسونار، وهو شبيه بما لدى طائر الخفّاش كما يقول العلماء.
من هنا يفيد الفقيه الكرباسي في “أحكام التسمية وشرائطها” وجوب إطلاق الإسم وعدم التهاون في الأمر، إذ: “يجب على ولي أمر الطفل أن يُسمّي المولود”، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه: “وذلك من الحقوق الواجبة على مَن له الولاية على الطفل حقًّا وحقوقًا، سواء فيه الوالد وغيره”، وزيادة على هذا الحق، أن يحسن الولي اختيار الإسم اللطيف، فمن وصايا النبي، صلى الله عليه وآله، التي أملاها على وصيِّه، عليه السلام،: “يا علي حقٌّ الولد على والده أن يُحسن اسمه وأدبه، ويضعه موضعًا صالحًا، وحق الوالد على ولده أن لا يسمِّيه باسمه”، واطلاق الإسم الحسن هو عنوان البر، فعن الإمام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام،: “أوّل ما يبرُّ الرجل ولده أن يسميه باسم حسن، فلحسن أحدكم اسم ولده”.
-
يجب وما لا يجب
ولا يختلف الذوق العام إزاء التسمية بين ذوات الأرواح والجمادات، فما يُستحسن في تسمية الإنسان ويقبح يستحسن في تسمية الجمادات ويقبح، فالأسماء الجميلة للمحلات والأسواق والمطاعم عامل جذب للمتسوقين والمتبضعين والآكلين، فالنفس البشرية ترتاح للإسم الجميل كما ترتاح للمنظر الجميل.
وهذه الخاصية تحمّل ولي أمر الوليد مسؤولية اختيار الإسم واستحسانه واستظرافه، وهو ما يدعوه الى معرفة ما له وما عليه في هذا الإطار وعدم التهاون لئلا يقع في المحظور الشرعي والأخلاقي والإجتماعي.
ومن الأمور التي ينبغي معرفتها كما يشير إليها الفقيه الكرباسي في مجموعة مسائل منها: “يحرم تسمية الإنسان بالأسماء التي تخص الله كلفظ الجلالة “الله””، نعم يصح ذلك إذا أضيف إسم الجلالة إلى مضاف ويُراد منه الشيء الحسن كما هو الغالب في ثقافات بعض الشعوب، ويستشهد الكرباسي على ذلك في مثل إطلاق إسم “الله بخش” أي عطاء الله، أو “الله آباد” أي حي الله ومدينة الله، ومثلها مثل “إسلام آباد” أي مدينة الإسلام في باكستان، ومثلها في إيران “إسلام شهر”.
ومن الجواز والإستحباب: “تجوز التسمية بأسماء الأنبياء والمرسلين بل يستحب ذلك”، ولما كان “روح الله” هي من صفات السيد المسيح ، عليه السلام،، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}، فنجد بعض الشعوب تطلق على أبنائها اسم “روح الله” تيمنا بنبي الله عيسى بن مريم، عليهما السلام، وفي هذا السياق: “تجوز التسمية بالعبودية للأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين، عليهم السلام، كعبد المحمد وعبد علي وعبد الحسن وعبد الحسين، وأمَة المصطفى وأمَة حيدر وأمَة فاطمة وهكذا”، ولكن بشرط كما يضيف المعلق: “أن لا يُقصد منه العبودية بالمعنى الخاص كما هو الدائر بين بعض الطوائف غفلة أو شوقًا أو ولاءً إفراطيا أو تطرفا، مثل لو سمّى شخص إبنه عبد الحسين معتقدًا بألوهية الحسين ، عليه السلام،، وذلك يُحرم قطعًا ويجب إرشاده”.
وقد يصادف الإنسان من اسمه كلب محمد أو كلب حسين أو كلب عباس لإظهار شدة الولاء للنبي محمد، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته كما هو في شبه القارة الهندية وآذربايجان وبلاد ما بين النهرين، ولكن الفقيه الكرباسي يعقب بقوله: “لا نعتقد أن الرسول، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته يحبذون مثل هذه التسميات، وما تبرير بعض الناس بأنها مخففة كربلائي عباس وكربلائي محمد غير صحيح، لأنّ الباء مؤخرة عن اللام أولاً، ومختصره يكون كرب عباس وكرب محمد ثانيا”، وللفقيه الغديري تفسير آخر بمؤدى الولاء الشديد حيث يعقّب: “وأما الذي اعتادت عليه بعض الملل بتسمية أولادهم بالكلب بخصوصه مثل: كلب الحسين، كلب العباس، كلب العابد، بلحاظ وفائه بصاحبه في الحفظ والحراسة عن نفسه وماله فلا بأس به، وهذا هو الأمر المتعارف عليه في القارة الهندية، وإن كان الأفضل ترك ذلك لعينية نجاسته، وأما الأسماء التي لا جهة إيجابية لها بارزة فاختيارها لا يخلو من إشكال كالحمار وجهنم، وقد يحرم إذا كان يوجب وهن المسمّى به شخصًا أو قومًا أو معتقدًا”.
-
وللمرأة هويتها
ولما كان للأنثى ما للذكر من حق التسمية لذا: “يُكره تسمية الذكر بإسم الأنثى وبالعكس إذا لم يسبب حرجًا للأولاد في الكبر وإلا حرم”، ولكن كما يضيف المعلِّق: “تُرفع الكراهة بالإضافة كما لو سمّى الإبن نسيم الحسن والبنت نسيم فاطمة مثلا” وهو الشائع في الهند، وفي باكستان القادم منها المعلِّق، نعم: “لا كراهة في تسمية الإنسان بالأسماء المشتركة مثل جمال وحكمت”.
ولأن للمرأة حرمتها واحترامها في بعض المجتمعات، فإنها إن فارقت الحياة وأريد الإعلان عن ذلك عبر إقامة مجلس فاتحة وترحيم لها، فإن ذويها كما في العراق وفي غيره يحجمون عن ذكر اسمها ويشيرون إليها بالعُلقة كأن يكتبوا “عقيلة فلان بن علان الفلاني” أي زوجته، أو “كريمة فلان بن علان الفلاني” أي ابنته، أو “والدة فلان بن علان الفلاني”، وهكذا في بقية النسب “شقيقة فلان” أو “خالة فلان” أو “عمّة فلان” أو “جدة فلان”، من هنا واحترامًا للعرف الإجتماعي: “يجوز ذكر أسماء الأنثى عند غير المحارم إلا مع عدم رضا الشخص نفسه”، ويضيف الفقيه الكرباسي: “تسمية الأنثى عند غير المحارم إذا كان مستهجنًا عند شريحة من الناس وكان يسبب إيذاءً فلا يجوز ذلك، حيث جرت العادة عندهم بعدم ذكر أسماء حريمهم احترامًا وتكريما”.
ولكن قد يقع الحيف على الأنثى عند بعض المجتمعات، فحينما يولد للرجل أنثى يكنى بها وما إن يولد له ذكر فيعدل هو أو يعدل المجتمع إلى تكنيته بالذكر دون الأنثى حتى وإن كان الفاصل الزمني بين ولادتهما سنوات طوال، ولكن بعض المجتمعات يزيد من ظلمها للمرأة عندما يستخدم بحقها الزوج أو الأب كلمات يفهم منها السامع التصغير أو التحجيم او حتى التحقير، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي أنه: “لا يصح ذكر إسم الأنثى سواء بالصراحة أو بالإشارة واستخدام كلمة “تُكرم” تحقيرًا للمرأة كما في بعض المناطق العربية والقرى غير المتحضرة”.
وأخيرا وليس آخر فإن المرء وليدا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى هو محل احترام وتقدير، وإذا حسن الإسم كان أول الطريق على حسن المقام، لما للإسم الزاهي من تأثير إيجابي على نفسية المرء وسلوكه، ولا أزهى من “محمد” وهو القائل: “إذا سميتم الولد محمدًا فأكرموه وأوسعوا له في المجالس، ولا تقبحوا له وجهًا” و”البيت الذي فيه محمد يصبح أهله بخير ويمسون بخير” كما يقول حفيده الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام،، ومثل هذا: “إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ألا ليقُم كل من اسمه محمد فليدخل الجنة لكرامة سميّه محمد” كما يقول حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليه السلام،، ولكن بشرطها وشروطها ومن الشروط حسن الولاء والبراء والوفاء بحق الله وحق المجتمع.
*الرأي الآخر للدراسات- لندن