مما لا يختلف عليه اثنان أن الإنسان خُلق كائنا اجتماعيا، يحب الآخرين ويختلط معهم، ويأنس بهم بدافع وشعور فطري يبعث في ذاته ضرورة الاتصال والتواصل مع الآخرين لتلبية الحاجات المختلفة.
لكن يقع البعض من الناس في الفشل خوفا من الفشل نفسه، لأن السبيل الى النجاح أو الهدف المنشود لابد وأن تصاحبه بعض الآلآم والمشاكل، ولهذا يتجنب البعض الإقدام على أي عمل خوفاً من بعض الكبوات في هذا الطريق.
عادة؛ الدروس والمحاضرات الجامعية إذا لم تتحول الى أخذ وعطاء بين الطلاب والاستاذ، تتحول الى مادة مملّة إذا كانت تُلقى بطريقة سردية، لاسيما إذا كانت مادة “مجردة” او ما يعبر عنه باللهجة الدارجة “جافة”.
وبالعودة الى ايام الجامعة، اتذكر مادةً من المواد كانت تتسم بالصلادة لكن استاذ هذه المواد الجافة حوّلها الى محاضرة حيوية ونقاش بيننا وبينه، مما أضاف عليها طراوة ومتعة بالنقاش بين الجميع.
كان أحد الطلاب لا يحب أن يشارك، وكنا نظن عدم مشاركته لشحة معلوماته، أو لعدم اطلاعه على المادة المقررة، لكن تبين أنّه يحمل كمّاً لا بأس به من المعلومات، ومطلع على أبحاث خارجية لها صلة بالمادة المقرّرة (الجافة).
وحين طلب منه الاستاذ المشاركةَ، تلعثم وبدا مُحرجاً للغاية، حاول أن يشارك ببضع كلمات لكنه كان يرتجف خجلا أو (خوفا).
حاول البعض اقناعه بأن يشارك في المرات القادمة، لكنه أبى المشاركة متذرعاً بقوله: “أخافُ أن افشلَ ويضحك عليَّ الجميع”!
-
اسباب وتداعيات
تتداخل الاسباب التي تُنتج هذا الأثر المعوّق لنضوج شخصية الفرد، فهناك عوامل بيئية وتربوية تساعد على خلق هذا المرض الكارثي:
ـ يصطحب الطفل في طريقه الى الفتوة ومن بعدها الرجولة، آثاراً تربوية ترسخت في نفسه بسبب الجو الذي كان يعيش فيه، ومن المعروف أن التربية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، قائمة على التسلط والعنجهية ضد الصغير، فالأب يعامل ابنه معاملة ضابط التحقيق مع المجرم.
فإذا أخطأ الطفل فإن عليه أن يستعد للوم والتقريع بأنواعه وأشكاله المختلفة، ما عدا الضرب والشتم، وهذا بحد ذاته يشكل عاملاً مباشراً لقتل شخصية الطفل، وإحياء مشاعر الخوف من نفسه والآخرين.
يقول سماحة المرجع المدرسي ـ دام ظله ـ : “زرت إحدى العوائل في كربلاء المقدسة والتي غالبية ابناؤها من الدكاترة والمهندسين والأطباء، فتعجبتُ من ذلك، وقبل أن استفسر عن السبب وراء هذا، لم استعجل السؤال، حتى يفصح لي موقف معين عن تلك الحالة.
يضيف سماحة المرجع: “كنا جالسين في الديوان، وما إن دخل طفل صغير علينا، قام الجد، ومشى إليه، وقال له: تفضل ابو علي؛ ثم نادى ـ الجدـ احضروا الماء لأبي علي”.
ثم يشير سماحة السيد المدرسي بقوله: “إن هذا التكريم والاحترام هو الذي يصوغ شخصية الطفل، مما يجعله كريماً يحترم نفسه، ويحترم الآخرين من حوله، وهذا هو مفتاح نجاح الشخصية”.
ـ للجينات الوراثية تأثير كبير في خلق حالة من الخجل الاجتماعي عند الفرد، فحسب أستاذة علم الوراثة في جامعة كينغز كوليدج لندن، الدكتورة ثاليا إيلي، فإن “سبب الخجل يعود في ثلاثين بالمئة منه إلى الجينات الوراثية، في حين تتكفل البيئة المحيطة بالنسبة المتبقية.
ـ ما يتعرض له الإنسان من صدمات أسرية أو اجتماعية، كالخلافات الزوجية، والشجار بين الأبوين، او الطلاق، من شأنها أن تُحدِث نوعاً من الانزواء والرِهاب الاجتماعي.
إذا أخطأ الطفل فإن عليه أن يستعد للوم والتقريع بأنواعه وأشكاله المختلفة، ما عدا الضرب والشتم، وهذا بحد ذاته يشكل عاملاً مباشراً لقتل شخصية الطفل، وإحياء مشاعر الخوف من نفسه والآخرين
-
كيف نقضي على الرِهاب الاجتماعي؟
من الأمور المهمة التي يجب على الفرد أن يرسخها في نفسه؛ سواء من أُصيب بهذه الحالة أو الذي لم يصب، أن الحياة قائمة على الصعوبات والمشاكل، وهو ما يُعبر عنه في القرآن الكريم، والروايات الاسلامية بـ”الابتلاء”. يقول الإمام علي، عليه السلام: “لا أجر إلا بمشقة”، فالساعي الى تحقيق أهدافه لابد أن يضع نصب عينيه مطبات ستلاقيه في طريقه التكاملي.
إن أهم نقطة يجب التركيز عليها في هذا المضمار، هي ثقة الفرد بنفسه، فالثقة بالنفس، كما يؤكد علم النفس واستاتذة التنمية البشرية، فهي المفتاح لتغلب الفرد على ضعف نفسه الداخلي، الذي تمتد آثاره الى مناحي عديدة في حياة الإنسان.
ولكن كيف نحصل على الثقة بالنفس؟
وهل هي صفة ذاتية أم اكتسابية؟
ليست الثقة بالنفس صفة أو مَلَكَة تولد مع الإنسان، وإنما هي اكتسابية، يكتسبها الإنسان مع مرور الزمن وفي معترك الحياة، وأبسط دليل على ذلك أن هناك أناس ناجحون في هذه الحياة، وهناك فاشلون، ومما لاشك فيه أن الناجح لم ينجح إلا بعد اكتساب الثقة بالنفس.
إن المواجهة المباشرة مع احداث الحياة وتقلباتها هي التي تصنع الشخصية القويّة والناجحة، ولهذا فإن تحدي المشاكل ومواجهتها يكشف نقاط ضعفها
-
خطوات لاكتساب الثقة بالنفس
1ـ أنت إنسان مميّز
خلق الله الناس جميعا خلقةً واحدة من حيث الجسم والبنية الخاجية، لكنه ـ تعالى شأنه ـ أودع في كل إنسان صفة او خصلة يتميز بها عن غيره تؤهله للنجاح، هذه الخطوة الأولى التي يجب معرفتها في هذه النقطة؛ الخطوة الثانية، هي تسليط الأضواء على نقاط القوة عندك، فلربما تحب المطالعة بشغف أكثر من غيرك، أو لربما تحب أن ترى كل شيء من حولك ذا نظام متناسق، أو قد تكون لبقاً في الكلام مع الآخرين، فتكسبهم كأصدقاء من أول لقاء.
2- العبادات
إن الإيمان بالله –تعالى- وتوحيده وعبادته عامل أساس وهام في علاج عديد الامراض النفسية، وتحقيق الصحة النفسية للإنسان بما يجعله أكثر ثقة بنفسه وأكثر قدرة على الصبر والمصابرة وتحمل متاعب الحياة، وعلى الشعور بالرضا والقناعة والطمأنية، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
“ويساعد الإيمان بالقضاء والقدر على تحمل ما قد يصيبنا من مصائب الدهر، فلا يلوم الانسان نفسه ويؤنبها ويعنفها على فيه من الشحة والقلّة، ولا يشعر بالحسرة واليأس مما لم يحصل، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، والإيمان بالله بالله يدفع عن صاحبه كل مشاعر الخوف من أي قوة في هذه الحياة، لأنه على ثقة أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله وشاء: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}“. (مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات النفسية).
3ـ التحدث مع النفس بإيجابية
الإنسان الذي يتذمر من كل شيء ويبدأ من نفسه، بتسليط الضوء على الأمور السلبية، فإنه لن يحقق أدنى تقدم في حياته، ولهذا فإن الحديث مع النفس بإيجابية يبعث الطاقة الروحية الفعّالة في النفس، ومن أمثلة ذلك: “أنا استطيع أن اعمل”، “أنا قوي الإرادة ولن يتمكن الفشل من النيل منّي”، الى غيرها من العبارات الذاتية المحفّزة.
4ـ ضع أهدافا وأعمل على تحقيقها
تتشعب الأهداف عند الإنسان لكنها تصب في النهاية في مجرى واحد، ومن الامور المهمة لخلق ثقة في النفس، هو صنع أهداف ولو بسيطة، فإذا كان أحدهم يشعر بالرهبة والخوف عند التكلم أمام مجموعة من الناس، فإن عليه اتخاذ خطوات هامة لكسر هذا الحاجز منها؛ أن يُلقي تحية السلام على كل من يجده في الشارع، و أن يخلق حواراً عائلياً في بيته يناقش إحدى القضايا ولو كانت ذا موضوع بسيط.
قُرنت الهيبة بالخيبة و الحياءُ بالحرمان”، قاعدة تنموية يضعها الإمام علي، عليه السلام، لكل من ينشد النجاح في أي حقل من حقول الحياة، فمن يتهيّب الصعاب يعود خائباً
5ـ المشاركة الاجتماعية
لا تمر السنة إلا وتصطحب معها أحداثا كثيرة، سواء كانت أحداثا تاريخية قديمة، كولادة النبي، صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام، أو ذكرى لمناسبة دينية أو وطنية مهمة، ولذا فإن مشاركة الفرد ذا الطابع الخَجَلي في هذه المناسبات ولو بالحضور من شأنه أن يهشم الجليد المتجمد الذي صنعه كحاجز بينه وبين الآخرين.
يقول الإمام علي، عليه السلام: “قُرنت الهيبة بالخيبة و الحياءُ بالحرمان”، قاعدة تنموية يضعها الإمام علي، عليه السلام، لكل من ينشد النجاح في أي حقل من حقول الحياة، فمن يتهيّب الصعاب يعود خائباً، والإمام علي، وضع في الرواية المذكورة علاقة طردية بين الهَيبة والخَيبة، كذلك فإن من يستحي من الإقدام على أمر ما فإنه سيُحرم منه، وهذا الحياء ليس ذلك الحياء الذي يردع المرء عن المعاصي، بقدر ما هو الكابح للاقدام على عمل الخير.
إن المواجهة المباشرة مع احداث الحياة وتقلباتها هي التي تصنع الشخصية القويّة والناجحة، ولهذا فإن تحدي المشاكل ومواجهتها يكشف نقاط ضعفها، ومن ثمّ معالجة مواطن الضَعف، وهذا كله يكون عبر الثقة بالنفس، فقد يوجّه إليك كلاما مزعجا من أحدهم، تذكر أن الناجح لا يهمه كلام الناس لأنه يحمل رباطة الجأش والتحدي الكامل على تجاوز تلك المصاعب.