بيت علي، عليه السلام كان فرعا من البيت النبوي، وهو انطباق عليه؛ لأنه انبثاث منه، رجل كان ربيب النبي، صلى الله عليه وآله، من صلبه، ابن عمه، من معدنه،: عقلا وانجذاب، ميلا واستجابةً، عملا وتطبيقا.
أمِنَ المصادفات أم من أنه من تدبير يجهل العقل كنهه كان وجود هذين القطبين في وقت واحد، ليكون للجزيرة العربية انبلاج شفق وتحقيق تأريخ؟
ولقد تساندا متكاملين في كل انجاز، ولقد أدرك النبي، صلى الله عليه وآله، ذلك تمام الإدراك، فألقى على ابن عمه أثقال القضية، وناطه بكل جليل.
أما فاطمة الزهراء فهي التي خُصَّ بها الإمام علي، عليه السلام، كأنها التدليل على عمق محبة النبي له وإيثاره إياه؛ لأن محبة الأب لابنته فاطمة كانت فريدة من نوعها، كانت فوق درجة الوله.
ولقد تضافرت العوامل لتزيد هذا الوله تمتينا وتعميقا، فالنبي، صلى الله عليه وآله، الحريص على رسالته لم يجد لها من صلبه من يتقيم عليها بالرعاية من بعده، ويتمد بها من مصير الى مصير، أما الإمام علي، عليه السلام، القريب القريب وفاطمة النجيبة، فهما اللذان يكون منهما حبل الرباط.
واشتد الوثاق .. إن الحسن والحسين عليهما السلام، أرهقا شعور النبي، حتتى اصبح يشم فيهما عبق الجنة.
تلك هي العترة الطاهرة، عائلة النبي، صلى الله عليه وآله، أهل الكساء، المطهرون من كل رجس، ذريته، أوصياؤه، أحب الناس إليه، الخط الطويل من بعده.
وتشابهت فيما بين هذين البيتين مسالك التأسيس، وتساوت سبل المناهج، فكان هذا طباق ذاك.
يكفي الطباق تجانسا فهم الرسالة والتعبير عنها قولا وعملا، فلقد عاش الإمام علي، عليه السلام، حياته ممدود الكف ممدود الساعد بذلا ودفاعا، ولقد توفرت له الدنيا فلم يأخذها إلا بتقتير، وحيا من عقيدة وتجسيدا لقدوة.
ومثلما ألقت خديجة، رضوان الله عليها، بين يدي النبي، صلى الله عليه وآله، ثروة، لا لتؤكل، بل لتصرف على قضية، هكذا توصلت إليه ـ عبر زوجته فاطمة ـ نحلة ( فدك)، لا لتؤكل أيضا، بل لتصرف على ذات القضية.. ومثلما كان بين يدي النبي مفتاح ثروات الجزيرة، فلم يقبل إلا أن يعيش ويموت فقيرا، هكذا توصلت الى الإمام علي، عليه السلام، مقاليد الثروات، ليس من الجزيرة وحسب، بل حتى من امبراطورية طافحة بالذهب، ولم يقبل إلا أن يعيش ويموت وهو يخصف نعله، ويرقع مدرعته، ومثلما تزوجت خديجة رجلا أحبت فيه طيفا خلف عينه، هكذا تزوجت فاطمة رجلا أحبته طيفا في عين أبيها.
وعاشت فاطمة، عليها السلام، تحت ظلين: ظلّ أبيها، وظل حليلها، وعانقت ريحانتين: الحسن، والحسين، ذرية لرجلين: نبي وإمام، وعانقت رهافتين: رهاقة الجسم، ورهافة الحس، واختبرت عصرين: عصر الجاهلية، وعصر الانبعاث، وأحبت أباها حبين: حب النبوة، وحب الأمومة، وصهرت بصهرين: مصهر الحرمان، ومصهر الحرمان.
بهذه الازدواجية عاشت فاطمة الزهراء، عليها السلام، صابرة على مكاره الدهر؛ اقتناعا منها بصدق قضية يلزمها الكثير من التجسيد وحسن الإخراج. ولقد جسدتها ـ كما جسدها أبوها وزوجها ـ بحبل طويل من الرضوخ والقناعة والاستسلام، وبسلسلة طويلة من العزم والإقدام والبطولات، وبالكثير من التضحيات.
ولقد رافق ذلك كله شموخ هو انعكاس تلك المتانة في النفس تتصلب بالشعور بالحق وصدق الوجدان. قضية (فدك) إرثها من أبيها، بلورت فيها هذا الشموخ بكل أنواعه، وما كانت مطالبتها بالإرث إلا تعبيرا عن هذا الشموح في تفلّته من عنصر الخوف والاستكانة.
ولقد قطعت شوطا بعيدا بهذا الدفاع عن حقها، لا لتصرفه على نفسها وبيتها لذة وترفيها، لقد كان يأنف خطها هذا الترفيه، بل لتصرفه في سبيل تمديد القضية، قضيتها وقضية زوجها وأبيها.
وما كان أبو بكر ومن خلفه عمر بن الخطاب إلا ليجابها امرأة تحرمها الجاهلية حق البروز، وحق التمرس بكل أنواع البطولات، لولا أن الإسلام أمّن لها هذه الجلوة، ولولا أن في فاطمة الزهراء، عليها السلام، عنفوان النفس التي تتخطى الحواجز.
وهوت فاطمة عليها السلام، في الحلبة بعد موت أبيها بقليل، وبقي بعدها الخط يسجل وقع خطاها، وبقيت رنّة الناقوس على نعومتها تتهادى من ظل الى ظل، لتنفجر جهادا في باحة قصر عثمان بن عفان زوج أختيها رقية وأم كلثوم في زواجهما المكرر، ولتنعقد ولاء لصاحب الحق الأصيل بالخلافة الإمام علي، عليه السلام.
واستمرت ساحة الاسلام لا يسلس لجوادها قياد، يرخيه يمين فيجذبه يسار، ثم يرخيه يسار فيجذبه يمين، وراج الجواد من خبب الى خبل، ومن خبل الى خبب، بين تيارين في مقوده متنافري الجذب متعاكسي الاتجاه : مفرق الى الكوفة، ومفرق الى الشام، معركة في البصرة، ورواغ في صفين، أذآن في يثرب، ومنجنيق على الكعبة، مد في الأندلس، وجزر في الحجاز، انطلاق في مصر، وانقباض في بغداد، ودماء أغزر من دجلة، وحوار في غبار، ودموع من سراب!
تلك نتيجة لن يتبرأ منها اجتماع السقيفة، ولن تحرم من نعمتها قضية (فدك)، ليت الرسول، صلى الله عليه وآله، يوحي: فتهدم سقيفة بني ساعدة، ويفنى كل يهودي في (فدك)!