ينتابنا السرور نحن معاشر المسلمين عندما نسمع تصاعد اعداد المسلمين في هذا البلد الغربي أو ذاك، ونعده علامة تحول إيجابي حلّ خيرا على البلد حيث حلّ فيه مسلمون مهاجرون، وبين فترة وأخرى تخرج الدوائر المعنية بأرقام عن المهاجرين واللاجئين وجنسياتهم وقومياتهم وأديانهم وربما تشعبات مذاهبهم، ويظل القارئ المسلم يبحث عن نقاط القوة في هذه الارقام محملقا حول التحولات الحسابية بين فترة زمنية وأخرى.
ويكاد يكون الأمر طبيعيا، لعوامل كثيرة أهمها كثرة الولادات بين المسلمين وتصاعد وتيرة الهجرات المتتالية التي لا تتوقف كلما حلّ على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ربيع عربي أو خريف إسلامي.
وفي غمرة الحبور نتناسى أن الأعداد المتزايدة من المهاجرين واللاجئين تعكس من جانب آخر الوضع المزري الذي عليه المسلمون في بلدانهم وأوطانهم، وحيث نفرح في مكان نحزن في غيره، وحيث يلفظ البلد أهله يستقبل الغريب وعلى مضض المتغرب من وطنه، حتى صار عموم المهاجرين وخصوص المسلمين عبئاً كبيرا على بعض البلدان الغربية ومحل عدم اطمئنان لدى الدوائر السياسية والحزبية الحاكمة تغذيها دوائر إعلامية علنية وخفية نصبت راية العداء للإسلام منذ نشأته الاولى وتعمل في الوسط الغربي مثل الحية الرقطاء.
وبالطبع إلى جانب هجرات المسلمين من آسيا وأفريقيا وبلدان الشرق الأوسط إلى القارة الأوروبية أو قارة أقيانوسيا واستراليا وكندا وأميركا وعموم البلدان ذات الطابع الديمقراطي، هناك هجرات عمل كان بعضها بالتنسيق بين الحكومات واكثرها طوعية، وهذه الهجرات أكسبت الغرب في صناعته وتجارته وأفاضت على العمالة الآسيوية والأفريقية بالخير مقارنة بالبلدان التي أتوا منها، ولا يعني هذا أن كل البلدان العربية أو الإسلامية في مقابل الغرب هي فقيرة من الناحية الإقتصادية، بل هناك من البلدان ما هي متفوقة اقتصاديا على الغرب، ولكن المشكلة في النظام السياسي غير المستقر على خلاف ما هو قائم في بلدان الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا يخفى ما لدور الغرب في عدم الاستقرار في البلدان العربية والإسلامية، لأن إقتصاديات بعضها قائمة على هذه الفوضى، وتحت عباءتها تشتغل مصانع الأسلحة عندهم وتشتعل في بلداننا نيران الحروب والإنقلابات والثورات الخاوية على عروشها.
يعود إنتشار الإسلام في ألمانيا إلى ثلاثينات القرن العشرين، ويعتبر المسلمون في ألمانيا أكبر الأقليات الدينية بعد المسيحيين، حيث إن البروتستانت والكاثوليك هم الأكثرية، وهم من الأتراك وأفريقيا وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا ووسط آسيا وإيران، وتشير بعض المعلومات إلى أن تسعين بالمائة من مسلمي ألمانيا ينحدرون من أصول عربية
ربما تكون هذه النظرة قاتمة نوعا ما، ولكنها واقع حال، ومع هذا فنحن نفرح عندما ترتفع أرقام المسلمين في الغرب بخاصة عندما يكون المسلم من اهل البلد الأم وقد تحوَّل إقتناعا بعد أن وجد في الإسلام ضالته وإن لم يجد في عموم المسلمين القدوة، ويظل تصاعد وتيرة أعداد المسلمين ومؤسساتهم عامل قوة وخير للبلد الذي هم فيه إن تم صب الجهود في الطريق السليم.
وهذه الرؤية التي تشكلت في مخيلتي أوحاها إلي كتيب “الإسلام في ألمانيا” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي صدر حديثا (2020م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 87 صفحة من القطع المتوسط أعده الناشط الإجتماعي العراقي الاستاذ وسام سعيد الصفار المقيم في ألمانيا، فما فيه من أفكار وأرقام هدى قلمي لأخط المقدمة التي تبدو لوحة رمادية ولكنها تظهر عن بعد قوس قزح وأملاً وردياً تنعم فيه البشرية.
-
جزء من النسيج الألماني
للفقيه المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي مؤلفات كثيرة في موضوعات مختلفة، وتقف على رأسها موسوعته الفريدة (دائرة المعارف الحسينية) التي صدر منها حتى الآن 117 مجلدا في ستين بابا من أبواب المعرفة اللصيقة بالنهضة الحسينية قرباً وبعداً، ويعد باب “معجم المشاريع الحسينية” النافذة التي يطل منها المؤلف على بلدان العالم يتابع في دهاليزها نشأة الإسلام في كل بلد ومكونات مذاهبه وامتدادات آثار النهضة الحسينية فيها في قليل منها أو كثير.
واحتل الكتيب الصفحات 303- 338 من الجزء الثاني من كتاب معجم المشاريع الحسينية الذي صدر في لندن سنة 2015م في 638 صفحة من القطع الوزيري، انبرى الأستاذ وسام الصفار المولود في مدينة الكاظمية بالعراق سنة 1966م إلى استقطاعه من الكتاب والتقديم عليه وإعداده للطباعة في حلته الجديدة ليأخذ مكانه في رفوف المكتبة العربية مستقلا، يعود إليه القارئ والباحث للتعرف على الإسلام والمسلمين في ألمانيا البلد الأوروبي الذي كان له حضوره المشهود في حوادث القرن العشرين في الحربين الأولى والثانية سلبا أو إيجابا.
بحساب الأرقام، فإن ألمانيا تضم اليوم بين ظهرانيها أكثر من خمسة ملايين مسلم، وحسب ما يفيد الأستاذ الصفار: “بالنسبة للمسلمين الشيعة في ألمانيا هم أقلية بالمقارنة مع المسلمين من المذاهب الأخرى، حيث تمثل مراكزهم وجمعياتهم الإسلامية حوالى مائة وخمسين مركزاً من مجموع 2500 مركز إسلامي منتشرة في الأراضي الألمانية”
لقد مرت على ألمانيا هجرات متعددة من عرب ومسلمين، في أولها هجرات عمل ودراسة ثم جاء الموجات المتأخرة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين هجرات لجوء من بلدان عربية وإسلامية آسيوية وأفريقية وهجرات من داخل أوروبا بعد انهيار الإتحاد السوفيتي سنة 1990م، وهي هجرات يشكل المسلمون فيها رقما كبيرا والعرب رقما أكبر، وحسب ما جاء في كلمة الناشر للأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن الدهيني: “يعود إنتشار الإسلام في ألمانيا إلى ثلاثينات القرن العشرين، ويعتبر المسلمون في ألمانيا أكبر الأقليات الدينية بعد المسيحيين، حيث إن البروتستانت والكاثوليك هم الأكثرية، وهم من الأتراك وأفريقيا وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا ووسط آسيا وإيران، وتشير بعض المعلومات إلى أن تسعين بالمائة من مسلمي ألمانيا ينحدرون من أصول عربية”.
والشيء المضيء من عتمة الصورة التي بدت تتضح ألوانها القوسقزحية شيئا فشيئا هو أن (الإسلام جزء لا يتجزأ من نسيج ألمانيا المعاصرة) كما جاء في عنوان مقدمة المعد، وهي حقيقة طيبة يراها من يتحرك على أرض ألمانيا ويلمسها من يتعامل بنشاط مع الفعاليات الأخرى تلمهم الدائرة الألمانية، وبتعبير المعد: “المجتمع الإسلامي في ألمانيا هو في حالة تأثر متبادل مع من حوله من أفكار وتيارات غربية وعلمية، والتطور المهم الذي حصل في الفترة الأخيرة هي عملية إنفتاح المسلمين على المجتمع الغربي حيث بدأ في أغلب المدن الألمانية حوار للأديان يشترك به ممثلو الأديان ويلعب فيه المسلمون الدور الرئيسي، وتمخض هذا الحوار عن نشاطات مشتركة تجمع بين الأديان على المستوى الثقافي والأدبي والإجتماعي مما خلق جواً مناسبا للتعايش السلمي بين جميع الأديان في المجتمع”.
ولأن المعد واحد من الناشطين في هذا المجال، وهو عضو الهيئة الإدارية لمجلس الجمعيات الإسلامية العراقية في ألمانيا ونائب رئيس الإتحاد الإسلامي الشيعي في ألمانيا، وسبق أن اجتمع بالرئيس الألماني الحالي فرانك والتر شتاينماير (Frank Walter Steinmeier) يوم 30 أبريل نيسان 2018م لبحث واقع المسلمين في ألمانيا، فإنه أقدر على بيان الصورة وتبيان معالمها، ولهذا لا غرو أن كتب في مطلع المقدمة: “يمثل الإسلام اليوم جزءًا لا يتجزأ من نسيج ألمانيا، والدين الإسلامي هو ثاني ديانة فيها وعدد المسلمي في تزايد مستمر”.
-
وتيرة الأرقام والنسب
يكاد تكون ألمانيا من البلدان الأوروبية التي لم تقف على حدودها الجيوش الإسلامية والعثمانية، لكن جيوش العمال دخلتها كما دخلتها فيما بعد جيوش اللاجئين فاستقبلت قسما وامتنعت عن آخرين، ومعظم القادمين إليها خوفا أو ولعا يحملون الهوية العربية والإسلامية ناهيك عن أديان ومذاهب أخرى توزعوا في هذه البلاد الكبيرة التي تضم أكثر من 83 مليون نسمة.
وبحساب الأرقام، فإن ألمانيا تضم اليوم بين ظهرانيها أكثر من خمسة ملايين مسلم، وحسب ما يفيد الأستاذ الصفار: “بالنسبة للمسلمين الشيعة في ألمانيا هم أقلية بالمقارنة مع المسلمين من المذاهب الأخرى، حيث تمثل مراكزهم وجمعياتهم الإسلامية حوالى مائة وخمسين مركزاً من مجموع 2500 مركز إسلامي منتشرة في الأراضي الألمانية”.
وهذه الأرقام هي في الواقع مصداق لما أفاض فيه المؤلف المحقق الكرباسي في طيات الكتاب، وهو يتحدث عن مراحل نمو الإسلام في ألمانيا وازدياد الجمعيات والمراكز الإسلامية بتعدد البلدان التي جاؤوا منها أو طوائفهم وقومياتهم، فجمعيات للأتراك وأخرى للإيرانيين وثالثة للعراقيين ورابعة للأفغان وخامسة لدول شمال أفريقيا، وهكذا دواليك، على أن للأتراك قصب السبق في هذا المضمار، فبرلين العاصمة لوحدها وإلى وقت قريب كانت تضم 76 مسجداً من مجموع 2300 مسجد أكثر من نصفها للأتراك أي بنحو 1500 مسجد في أنحاء ألمانيا حسب إحصاء عام 1996م، وحسب تقديرات سنة 2001م كان هناك نحو 2000 جمعية إسلامية مسجلة رسميا يدرس فيها نحو 56 ألف طالب وطالبة، ونحو 2200 مركز عبادة، وتملك نحو 160 مسجداً الصفة الرسمية، وقد شهدت ألمانيا زيادة في إقامة المساجد لزيادة أعداد المسلمين الوافدين والمقيمين ومن أصول ألمانيا وحسب إحصاءات المعهد المركزي الألماني للإرشيف الإسلامي لسنة 2008م: وثقنا 184 مشروعا لبناء مساجد جديدة بوشر العمل بها، مزودة بمآذن وقبب ناهيك عن 2600 موقع صلاة داخل مبان مختلفة على امتداد البلاد، على أنَّ ألمانيا لم تكن تضم سنة 1990م سوى ثلاث مساجد شاخصة بمآذنها.
وهذه الأرقام قابلة للزيادة لتمدد المسلمين الوافدين في المدن والبلدات الألمانية، مع زيادة في تمدد الإسلام في الوسط الإجتماعي الألماني، وهذه الكثرة زاد من نشوء مراكز الإستشراق في ألمانيا حيث يوجد فيها 26 مركزاً يتابع الشأن العربي والإسلامي في ألمانيا وخارجها.
-
محاسن كلامهم .. منهاج
يمثل الإسلام دين الفطرة يوافق مع العقل السليم، ويستوعب الجميع، وحيث بدأ بمحمد الرسول، صلى الله عليه وآله فرداً، فهو اليوم يضم تحت جناحيه أكثر من ملياري إنسان يعيشون على وجه البسيطة من مجموع نحو 7.75 مليار إنسان.
وحيث العبرة بالجودة لا بالأرقام، فإن الثابت أن التأثير والتأثر بين بني البشر يتم عبر التعامل، ولهذا كان تركيز العلماء على فقه المعاملات مثلما تركيزهم على فقه العبادات، فإذا كان الثاني ضمانة لحسن العاقبة في الحياة الآخرة فإن الأول ضمانة لحسن السلوك وسلامة المعاملة بين بني البشر في الحياة الدنيا، وسلامة الآخرة من سلامة الدنيا.
فالمسلمون الأوائل آمنوا بصاحب الرسالة عندما وجدوا الإنسجام التام بين سلوكه وما يبشر به، كما تبع المسلمون من بعده الأئمة الأطهار والصحابة النجباء، والمجتمع الألماني ليس بعيدا عن هذه المعادلة الطبيعية في توافق القول والعمل، وبتعبير الدبلوماسي الألماني مراد ويلفريد هوفمان (Murad Wilfried Hofmann) (1931- 2020م) الذي تحول من الكاثوليكية إلى الإسلام: “إن أفضل طريقة لنشر الإسلام هو تطبيق تعاليم الإسلام الصحيحة ومبادئه وليس مجرد ممارسة شعائره فقط”.
وقراءة الإسلام قراءة واعية هي التي جعلت إعلامية وكاتبة ومقدمة برامج ألمانية مثل كريستيان فيرينا باكر (Kristiane Verena Backer) المولودة في هامبورغ عام 1965م أن تتحول من المسيحية إلى الإسلام حيث انبهرت بدور الإسلام في إعطاء المرأة حق الإقتراع والإنتخاب، كما جرى يوم البيعة في السنة الثامنة للهجرة في القرن السابع الميلادي، في حين لم يعط الغرب للمرأة حق الإنتخاب إلا في القرن العشرين الميلادي، وكذلك فعلت المستشرقة الألمانية آن ماري شمل (Annemarie Schimmel) (1922- 2003م) وهي التي: “درست الإسلام بروح الموضوعية فأحبته إن لم نقل اعتنقته وحاولت رفع الشكوك والحواجز التي وضعها الحاقدون على الإسلام حتى حصلت على جائزة السلام لعام 1995م”.
وحيث بدأ المعد حديثه عن الإسلام كجزء لا يتجزأ من نسيج ألمانيا المعاصرة، أنهى المؤلف تقدمته بالتأكيد على: “المسلمين في هذا البلد وغيره أن يندمجوا في النسيج الإجتماعي للدولة التي وردوا أو أسلموا فيها ليكون عليهم ما على الآخرين ولهم ما للآخرين من الحقوق والواجبات .. فليكن المسلم ملتزما بالإسلام وبالأخلاق الحميدة”، وهي وصية الإسلام أمضاها حفيد رسول الإسلام الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام منهجاً وسلوكاً: “رحم الله عبد أحيا أمرنا يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا”.