عاشوراء نهضة للحياة الكريمة لا للموت (1)
انطلق ركب الإمام الحسين عليه السلام على بركة الله من عمق التاريخ، باتجاه ذرى الحضارة الإنسانية وانطلق معه الأحباب والعشاق، طمعاً بالفتح الذي وعد به سيد الشهداء بني هاشم في رسالته المعروفة، ولكن علينا معرفة معنى الحياة في المنطق القرآني، لأن الإمام الحسين، هو بمقام القرآن الناطق في عصره وزمانه ولا يخرج عن القرآن قيد أنملة، فما هي حقيقة الحياة؟
يجيبنا القرآن الحكيم بقوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.(الأنفال: 25).
فالله تعالى يأمرنا أن نستجيب لدعوته في كتابه الحكيم، ولدعوة رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله في سنته، ففي ذلك تكمن الحياة الحقيقية والسعادة الواقعية بالنسبة إلى هذه الدنيا، وبدون الاستجابة لهذه الدَّعوة فإن الحياة ستتحول إلى جحيم لا يُطاق، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى}. (المؤمنون: 126).
فالإعراض عن ذكر الله ـ والقرآن ذِكر، والرسول صلى الله عليه وآله ذِكرٌ أيضاً ـ فإن الحياة مهما كانت مفعمة بكل أنواع الماديات فإن صاحبها لن يشعر بالسعادة أبداً، بل كلما ازدادت عليه النِّعم يزداد تسافلاً حتى ينتحر كما يحصل عند الكثيرين من أهل الدنيا، وأما أهل الدِّين والقرآن فتراهم سُعداء وفي غاية السَّعادة وهم ربما لا يمتلكون قوت يومهم فقط، ولكنهم يلهجون بذكر الله وهذا يُضفي على قلوبهم الطمأنينة والسكون، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. (الرعد: 28).
نهضة عاشوراء الشهادة، هي منهج متكامل طرحه الإمام الحسين، عليه السلام، على هذه الأمة لتقتدي به وتعيشه في حياتها، وليست دعوة للموت، أو القتل، ولكن كانت فلسفة الحياة تقتضي أن يقتحم الإنسان الموت إذا خُيِّر بين الحياة الذَّليلة في عيش خانع وخاضع للظالمين
عاشوراء دعوة للحياة الطيبة
ومن هذا المنظار القرآني فإننا ننظر إلى نهضة عاشوراء الشهادة، على أنها منهج متكامل طرحه الإمام الحسين، عليه السلام، على هذه الأمة لتقتدي به وتعيشه في حياتها، وليس هو دعوة للموت، أو القتل، ولكن كانت فلسفة الحياة تقتضي أن يقتحم الإنسان الموت إذا خُيِّر بين الحياة الذَّليلة في عيش خانع وخاضع للظالمين، وبين الموت في عزة وكرامة وبطولة وشهامة فلا شك ولا ريب أن يُقدَّم الموت والشهادة في سبيل الله على تلك الحياة الخسيسة.
وهذا طريق الأحرار الذي اختطَّه الإمام الحسين عليه السلام، أبيُّ الضَّيم في نهضته، الذي قال في فلسفتها ليُعلِّم الأجيال الحقيقة: “ألا وإنَّ الدَّعي ابن الدَّعي قد تركني بين السِّلَّة والذِّلة، وهيهات له ذلك، هيهات منِّي الذِّلة؟ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طهرت، وحجور طابت، أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“. (نفس المهموم:131، مقتل الخوارزمي 7:2، بحار الأنوار 83:45).
فمسألة الحياة بعزة وكرامة هي التي اختارها الإمام الحسين عليه السلام، وإخوته وأبنائه وأصحابه الكرام الذين رؤوا في إمامهم قائداً إلى كل فضيلة، وداعيةً إلى كل كرامة وهو ما ينسجم مع فطرتهم النقية وتكوينهم البشري الذي خلقهم الله تعالى عليه حيث، قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. (الإسراء: 70).
فالإنسان مخلوق مكرَّمٌ من خالقه، وهو كريم عليه، بأن جعله مخلوقاً بكرامة، وذا كرامة ولم يُرخِّص له أن يذلَّ نفسه لغير خالقه سبحانه وتعالى، قال أبو عبد الله الصادق، عليه السلام: “إن الله عزّ وجلّ فوَّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يُفوِّض إليه أن يذلَّ نفسه، أما تسمع لقول الله عزّ وجلّ: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}”، فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً، ولا يكون ذليلاً، يُعزه الله بالإيمان والإسلام، بالطاعة والعبادة التي هي الفخر والعز والشَّرف كل الشرف له، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. (الذاريات: 56).
فالعلَّة الغائية من خلقة الإنسان أن يكون عبداً مطيعاً لله تعالى، ولذا كلما كانت طاعته أكثر، وعبادته أكمل كان قريباً لله تعالى وهذا ما يُميِّز الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، إذ نشهد له بذلك في الشهادة الرسالية (وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله)، لأنه العبد الأكمل في عبوديته فصار الأكرم على ربه من كل خلقه، وهذه هي فلسفة العبادة والطاعة في هذه الحياة.
إذا انحرف السلطان انحرف الزمان وفسدت الأمم، وهذا الذي يعلمه الإمام الحسين، عليه السلام بعلم الإمامة اللَّدنِّي، فكان لا بدَّ له من نهضةٍ بحجم هذا الانحراف الذي أوصل مثل يزيد إلى سدَّة الحكم
وهذه الفلسفة غائبة عن الكثيرين منا – للأسف الشديد – إذ ينظرون إلى الحياة بالماديات الصِّرفة كالمال، والجاه، والسلطة، والقوة، والعشيرة، ويتكاثرون بالأفراد والأموال، ظناً منهم أن بذلك تكون كرامتهم عند الله كما هي عند الناس، ولكن المقياس عند الله غير هذا المقياس حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (الحجرات: 13).
فالتقوى هي المقياس في القرب والتفاضل عند الله تعالى وليس بكل المقاييس البشرية المادية الأخرى، لأن مقاييس البشر بشرية، ومقاييس الخالق إلهية، ولكن لضيق الأفق، وسوء التقدير، وعدم التوفيق والتسديد الرَّباني تجد أكثر البشر يتَّبعون مقاييسهم وينسون مقاييس الله تعالى فيشقون في دنياهم، ويُعذبون في أخراهم.
المقياس؛ الأقوى أم التقوى؟!
المتأمل في تاريخنا الإسلامي يجد أن السيرة العملية في الحياة السياسية للأمة الإسلامية خرجت عن أن تكون تحت المقياس (التقوى)، فصارت بالمنطق العملي بمقياس (الأقوى)، تلك السيرة التي فرضها رجال قريش المتنفذين في حياة المسلمين، ممَنْ كانوا يُحيطون بالنبي، صلى الله عليه وآله ويُسمونهم الصحابة، فكان شرفهم، وفخرهم، وسؤددهم، هو الصُّحبة فتحوَّلت هذه (الصُّحبة) إلى مقياس في الفضيلة، بعد أن تحوَّلت السُّلطة إلى مقياس في الفضائل، وهنا أصيبت الأمة في مقتل، ووقعت في هوَّةٍ سحيقة جداً لم تستطع الخروج منها إلى اليوم، وهي تصطلي بنارها التي أشعلها رجال قريش لنزوتهم وحبهم للوصول إلى السلطة، والجاه، لأنهم كانوا محرومين منه في حياتهم قبل ذلك، فكانوا يعيشون حالة من النَّقص تجاه كُبراء قريش، وأكابرها من بني هاشم الأكارم.
فتحوَّلت المقاييس، وتشوَّهت المعايير، واختلطت الأفهام في العوامِّ من الناس، فالقول الشائع صحيح: (الناس على دين ملوكهم)، فإن كان التمليك من الله ـ كسليمان وداوود ـ فالمَلك يكون مقياساً للعدالة في الحكم، والقسط في الأمم، لأنه معصوم من الخطأ، وأما إذا كان التمليك والوصول إلى السلطة بطريقة أخرى، فالمُلك، والسلطة قطعاً ليست مقياساً، لأن المَلك بشرٌ يطرأ عليه كل ما يمكن أن يحدث للبشر العاديين، ولكن القاعدة العامَّة أقرها الله تعالى حين جاءت على لسان بلقيس ملكة سبأ حيث، قالت: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}. (النمل: 34).
والسلطة القرشية الأولى وقعت في المحذور الفكري، والعقائدي لما ظنَّت أنها تستطيع أن تختار الحاكم العادل، كما صرَّح بذلك الخليفة الثاني لعبد الله بن عباس يوماً بقوله – كما في تاريخ الطبري – قال: يا ابن عبّاس، أتدري ما منع قومكم منهم – بني هاشم – بعد محمّد؟ فكرهتُ أن أُجيبه، فقلتُ: إن لم أكُن أدري فأمير “المواطنين” يُدرِّيني.
فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة، فتبجّحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسه، فأصابت ووفّقت.
فأجابه ابن عباس: أمّا قولك: “اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت”، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللَّه عزّ وجلّ لها لكان الصَّواب بيدها غير مردود ولا محسود؛ وأمّا قولك: “إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة”، فإنّ اللَّه عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهيّة فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}. (محمّد: 9)
والعجيب الغريب قول الرجل في نهاية المحاورة لابن عباس: ” فقال عمر: هيهات، أبَت واللَّه قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسداً ما يحول، وضغناً وغشّاً ما يزول”.
فقلتُ: مهلاً يا أمير “المواطنين”، لا تصِف قلوبَ قوم أذهب اللَّه عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً بالحسد والغشّ؛ فإنّ قلب رسول اللَّه، صلى اللّه عليه وآله، من قلوب بني هاشم”. (تاريخ الطبري: 4/223، الكامل في التاريخ: 2/218)
هكذا صار منطق السلطة القرشية، حيث قلبوا المحسود صار حاسداً، والحاسد صار محسوداً، لأنه صار حاكماً بالقوة والغلبة، وعلى هذا المنطق المعكوس، والفكر المنكوس الذي أوصل أبناء الشجرة الملعونة في القرآن (بني أمية) إلى السلطة، وهي محرَّمةٌ عليهم بنصِّ رسول الله، صلى الله عليه وآله الذي ينقله الإمام الحسين، عليه السلام شخصياً، بقوله: “ولقد سمعت جدي رسول الله يقول: إن الخلافة محرمة على ولد أبي سفيان، وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم رسول الله هذا“. (بحار الأنوار: ج 44 ص312).
وإذا انحرف السلطان انحرف الزمان وفسدت الأمم، وهذا الذي يعلمه الإمام الحسين، عليه السلام بعلم الإمامة اللَّدنِّي، فكان لا بدَّ له من نهضةٍ بحجم هذا الانحراف الذي أوصل مثل يزيد إلى سدَّة الحكم وهو لم يكن أهلاً لإدارة بيت عدا عن قيادة أمة هي خير أمة أخرجت للناس، فنهض الإمام الحسين لإعادة الأمة إلى جادة الصواب، في دينها وعقيدتها وإسلامها العظيم، وبالتالي إلى تلك الدَّعوة من الحياة الحرة الكريمة كما أمر الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله.