لا يخفى على احد حجم التطور العلمي الهائل والمتسارع الذي يشهده العالم اليوم، والذي انعكست تأثيراته على كل مجالات الحياة التكنولوجية منها، والادارية والسياسية والصناعية والاقتصادية والتعليمية، وبالمحصلة فان هذا التطور عصف بالقيم التربوية والثقافية والسلوكية للشعوب؛ المحافظة منها والمتخلفة علمياً بشكل خاص، وكذا الشعوب غير المحافظة او تلك المتقدمة علمياً بشكل عام، مما أوجد تحديا تربويا حقيقيا يصعب التعامل معه من قبل القائمين على ادارة مجالات الحياة بشكل عام، والتربية بشكل خاص.
لقد ادركت الشعوب المتقدمة ان القنوات التقليدية لاتخاذ القرارات التربوية لم تعد صالحة لمتطلبات التربية الحديثة؛ ذلك ان اتساع الحياة وتشعبها وانعكاساتها على القيم التربوية تجعل مسؤولية هذه القنوات كثيرة ومتشعبة، ولن تستطيع التعامل مع كل هذه المجالات المتسعة والمترامية الاطراف بالقدرات التقليدية المحدودة؛مما يجعل عملية اتخاذ القرار تتطلب وقتا طويلا، ومن جهة اخرى، فان التغيرات المتسارعة لا ولن تسمح بهذا التأخير، فحينذاك ربما يكون موضوع هذا القرار قد تلاشى، ونكون امام موضوع قرار جديد، كما ان هذه التطورات قد فرضت مبدأ التخصص؛ فلم يعد النمط القديم غير المتخصص نافعا.
-
مراكز الدراسات ضرورة حياتية
وامام هذه العناصر الثلات من اتساع مجالات الحياة، وضرورة التخصص، والسرعة في اصدار القرار، صار من الضروري استحداث مراكز دراسات تخصصية في كل مجال من مجالات الحياة، تقوم بمهام متعددة وتكون بمثابة العقل لمتخذ القرار، فتقوم بتحليل المشاكل الواقعة، وطرق الحل والمعالجة، وماهي الفرص السانحة والمتوقعة؟ وكيفية الاستفادة منها؟ بل والتوقع للمشاكل وحلولها، والفرص وطرق الاستفادة منها قبل حصولها.
وامام هذه الحقيقة قامت الدول المتقدمة بتأسيس مئات مراكز الدراسات وفي مختلف الاختصاصات ومنها التربوية، وتنامت بشكل سريع جدا، واصبحت اهم مقومات قوتها.
-
نحن .. أين نكون؟
واذا كانت هذه هي خطوات الدول المتقدمة علميا، فان البلدان المتخلفة أحوج ما تكون الى مسابقتها في تأسيس مراكز الدراسات المختلفة، وخاصة التربوية منها؛ حيث ان التربية قاعدة ومنطلق التقدم وبجميع مجالاته، ومن جهة اخرى، فان هذه المراكز تحتاج الى وقت طويل جدا للاستفادة منها؛ فنتائج الدراسات التربوية تحتاج الى دراسات ميدانية، وتجارب على عينات كثيرة، وفي ظروف مختلفة، ولفترات طويلة؛ لاثبات فرضياتها او نقضها، فهي تتعلق بالنفس البشرية وما اصعب الغور في اعماق تلك النفس ومعرفة سلوكياتها ظاهريا.
وامام هذه التحولات المتسارعة في القيم التربوية والثقافية؛ فاننا أحوج ما نكون الى المسارعة في تأسيس مراكز دراسات تربوية متخصصة تقوم بمهامها في التحليل، وغرس الوعي التربوي عن طريق الورش والندوات والمؤتمرات والمسابقات، ونشر الدراسات والبحوث وغيرها، ان لهذه المراكز دوراً كبيراً في بناء كوادر وخبراء في مجال التربية والغرس القيمي والثقافي عن طريق تراكم الخبرات والمعرفة البحثية.
ولكي تحقق هذه الوظيفة دورها، ينبغي ان تبنى وحداتها واقسامها بشكل علمي ومهني.
ان نجاح هذه المراكز يحتاج الى توفر البيانات؛ اذ يعد توفر البيانات اهم ادوات عملها، كما يجب تحقيق استقلاليتها؛ فالمراكز المسيسة والتابعة غالبا ما تقوم باعطاء نتائج متحيزة لمن تتبع له، كذلك يجب توفر حرية البحث العلمي؛ فيكون الباحث حرٌ في الموضوعات التي يرغب في بحثها، وحراً في بيان النتائج الحقيقية لتلك الابحاث.
-
ضرورة دعم الحكومات لمراكز الدراسات
ان مراكز البحوث والدراسات في العالم تدعم من قبل جهات متعددة تستفاد من نتائج بحوثها، وهذا يعتمد على تطور المجتمع وتداخل وتكامل انشطته الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والعلمية و…الخ.
أما في بلداننا حيث ان اغلب الجوانب الحياتية متخلفة ومفككة، فان هذه المراكز لن تجد مشترياً لمخرجاتها، ولا داعماً لاستمراريتها؛ فيفترض بالدولة القيام بمهمة الداعم لهذه المراكز حتى تنهض بالقطاعات التي تبحث فيها، والتي ستقوم بدعمها مستقبلا.
وهكذا فان الدول التي تخلو او لا تعتمد على مراكز الدراسات الفكرية الحقيقية، لا يمكن ان نصف قراراتها الاستراتيجية الا بالعشوائية والعبثية في افضل حالاتها.