ما يزال البعض يماطل في تصوير الشاشة الصغيرة (تلفاز –جهاز لوحي- هاتف نقال) على انه حديقة جميلة تضم اشكالاً من الزهور، أيها أعجبتك اقتطفتها استجابة لمزاجك و ذوقك، وليس في الأمر أي إكراه على الاختيار، بيد أن هذه الشاشة المُذهلة كرست سلطانها على جميع وسائل جذب الانتباه في العالم، بعد اكتساحها للسينما والمسرح، و راحت تُمعن في استخدام الصور والموضوعات المثيرة للغرائز باشكال واساليب متنوعة، مما زعزع مصداقية هذا الادعاء الذي روج له الكثير طيلة العقود الماضية، منذ أيام هيمنة السينما على أدمغة الشعوب، فأينما قلبت نظرك اليوم على مواقع الانترنت او القنوات الفضائية تجد لوناً من الايحاءات المثيرة للغرائز والنزعات النفسية، في مقدمتها الغريزة الجنسية، الى جانب نزعات التفوّق، والهيمنة، والخروج عن المألوف، بدعوى “الانسان حريص ما مُنع”!
-
الاثارة الجنسية لغة صديقة!
من أسرع اللغات فهماً للانسان؛ الجنس، لسبب بسيط من جملة اسباب؛ أن الجنس أمر فطري مغروز في نفس كل انسان، ولحكمة إلهية واضحة، نجد أن الاثارة الجنسية تختلف عن سائر المثيرات في سرعتها وآثارها على التفكير والسلوك، فالانسان الجائع حتى الموت، لن يكون حاله برؤية مائدة طعام عامرة بما لذّ وطاب، كحال الشاب غير المتزوج المشحون بالطاقة الجنسية، وهو يرى امامه فتاة يظهر منها أجزاء مثيرة من جسدها، بقصد او دون قصد.
هذه الحالة الغريزية والطبيعية لدى الانسان نراها مجيّرة بشكل بشع من عديد مواقع الانترنت، وقبلها القنوات التلفزيونية، لاغراض تجارية بالدرجة الاولى، والحصول على أكبر قدر من الارباح من مسلسلات وافلام، وما تتخللها من اعلانات تجارية، في حين بالإمكان توجيه هذه الغريزة لدفع الشباب نحو الزواج وتشكيل الأسرة والانجاب لما في ذلك من فوائد جمّة؛ اقتصادية وسياسية وحتى أمنية، فالبلد المستقر اجتماعياً وأسرياً هو القادر على اختيار ممثليه الأكفاء في مؤسسات الدولة، عندما يكون تفكيره سليماً وشفافاً، ثم يتمكن من الابداع والعمل والانتاج؛ بل وإظهار القدرات الخارقة لمواجهة أي تحدٍ خارجي؛ سواءً عسكرياً او ثقافياً من أية قوة في العالم، والتجارب البشرية في ذلك عديدة، كما أن مآلات التجارب البشرية بالحالة المعاكسة عديدة أيضاً.
بينما نجد في وسائل الاعلام المرئية هذه، كلاماً متواتراً عن الازمات والمشاكل التي تكتنف الزواج، من تكاليف باهضة، وتقاليد مكبّلة، ومن ثم إثارة هواجس الانجاب، والتكاليف المترتبة لعلى ذلك، بما ينفّر الشاب والشابة عن التفكير بالزواج، بالمقابل يحرضهم للانطلاق نحو إشباع الغريزة الجنسية بأقل التكاليف، و أي حديث عن الالتزام بالضوابط؛ وإن كانت في مصلحة الشباب مئة بالمئة، فانها تتحول في اذهانهم على أنها اجراءات كبت وقمع، بل وتجاهل للحقوق الطبيعية.
-
“التحرّش الجنسي” النتيجة الحتمية
رغم انتشارها في وسائل الاعلام، خبراً، ومقالةً، وبحوثاً اجتماعية، بيد أن المعنيين لم يقفوا على تحديد مفهوم محدد لهذا المصطلح المستحدث، فهل هو الملامسة البدنية؟ أم إطلاق الالفاظ المثيرة؟ أم ينصرف الى ما هو أعمق؛ حيث الاعتداء الجنسي المعروف في الاحكام الاسلامية بـ “الزنا” للمرأة، و”اللواط” مع الجنس المماثل؟
من خلال الاحاديث والدراسات في مناسبات عديدة، يبدو على المعنيين التعلثم بالمعنى الدقيق والحقيقي للتحرش الجنسي، وهو الاغتصاب، وفق المصطلح الدارج، وربما تكون صياغة هذا المصطلح للتخفيف من حدّة الجريمة “الزنا” في الاذهان، وما تشهده البلاد العربية والاسلامية، وحتى بلاد عديدة في العالم من ظواهر التحرش الجنسي بشكل فضيع، بات ليس فقط يقضّ مضاجع المجتعات والشعوب، بل ويهدد في الوقت نفسه مصداقية اصحاب الشأن في انتاج البرامج والافلام والمسلسلات وبثها من على الشاشة الصغيرة، فبعد أن كانت المثيرات محل إعجاب الشباب ونافذة تحررهم، وبالنسبة للإناث؛ عامل إثبات أنوثتهنّ في الواقع الاجتماعي، وأنهنّ قادرات على كل شيء، باتت اليوم مصدر قلق واضطراب لهؤلاء جميعاً، الى جانب القلق الذي يعيشه منذ البداية؛ الابوين والأسرة، بل والمجتمع بشكل عام.
هذا المآل شقّ المجتمعات نصفين في آثاره وتداعياته: الشقّ الأول: بات يشعر بالضِعة أمام الهياج المريع للغريزة الجنسية في كل مكان، حتى في داخل البيوت التي يفترض انها آمنة ومحمية بالآداب والأعراف والأحكام، ولا تخلو فتاة او امرأة، وإن كانت كبيرة في السنّ، من مشاعر الخوف من معاكسة شاب او رجل في الطريق، او في الاسواق، او في المحيط التعليمي، او الوظيفي، حتى وإن كان ذلك المكان خالياً من تصرفات كهذه، حسب المحيط الاجتماعي والالتزام الديني لأهل تلك المدينة، بيد أن بذرة الخوف تكاد تكون في نفس كل أنثى في مختلف البلاد الاسلامية.
أما الشقّ الآخر فرأى في المكابرة السبيل الأفضل لمواجهة تداعيات هذا التطور الاجتماعي العجيب، من خلال الدخول في أندية خاصة بتعليم النساء فنون الدفاع عن النفس لمواجهة احتمالات التعرض للتحرش الجنسي، وقد تحدثت نفس وسائل الاعلام المرئية عن وجود أندية كهذه في دول عدة، وكيف أن النسوة يتسابقن للتسجيل فيها، مع عدم الالتفات فيما اذا كان بإمكان جميع النسوة والفتيات الانضمام الى هذه الاندية لاسباب مختلفة، أو ان تكون فنون الدفاع عن النفس الوسيلة الناجعة لمعالجة ظاهرة أبعد ما تكون عن نوازع التنمّر والعدوانية، بقدر ما هي منطلقة من نوازع نفسية، فالمتحرش جنسياً لن تظهر على ملامحه علائم الهجوم على أي شخص ما، كأن يحمل آلة حادّة او سلاح.
بعد انتشار حوادث الاغتصاب والخيانات الزوجية والعلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج في عديد بلادنا الاسلامية، بات من الصعب جداً استرجاع المقولة القديمة، بأن “ما لا يعجبك لا تنظر اليه”، فالدراسات والابحاث تكاد تجعل الصورة المثيرة شريكاً في الجرائم الجنسية المختلفة، مع الفارق أن هذا الشريك مجهول الهوية، ولا يمكن توجيه إدانة لقناة تلفزيونية او موقع على الانترنت، فيبقى الجاني وحده في الساحة يواجه مصيره المحتوم.