يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وَالْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى غائِصِ الْفَهْمِ، وَغَوْرِ الْعِلْمِ، وَزُهْرَةِ الْحُكْمِ، وَرَسَاخَةِ الْحِلْمِ: فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ، وَمَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ، وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً”.
لازلنا في بيان دعائم الإيمان من كلام أمير المؤمنين، عليه السلام، في كتاب نهج البلاغة، واليوم نحن أمام دعامة جديدة من دعائم الإيمان، وهي “العدل”.
العدل من دعائم الايمان، ولكي يكون الانسان مؤمنا لابد ان يكون عادلا، وكما في حديث عن أمير المؤمنين، عليه السلام: “العدل رأس الايمان وجماع الاحسان”، الله عادل ويأمر به وبالاحسان، بل حينما يواجه المؤمن عدوا ظالما حقودا يطالب ـ الباري تعالى ـ مقاومته لكن في إطار العدل، فإذا كان العدو ظالما فلا يسمح لك بأن تمارس الظلم معه، يقول ـ تعالى ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وفي آية آخرى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}.
⭐ حينما لا يكون العدل ساريا في المجتمع فلا يمكن اقامة حجر على حجر، لان العدل هو الطاقة السارية في الكون، وبسببه نحن نعبد الله، وبثقتنا بالله ـ عز وجل ـ نعمل
طبعا ليس العدل خاصا بالحكم فقد يقول احدهم: العدل شأن لا يرتبط بي بل هو مرتبط بالحاكم وأنا كشخص عادي فإن ذلك لا يعنيني! لكن حين يكلمنا الاسلام عن العدل، وكلام أمير المؤمنين، عليه السلام، حين يتحدث عن الايمان يجعل العدل دعامة للايمان، ويعد ذلك الذي لا يلتزم بالعدل غير مؤمن، لان دعامة العدل عنده مفقودة.
العدل لابد أن يعمّ الناس جميعا، ويكون الناس ضمانة العدل، لان المؤمن يعتبر العدل جزاء من اصول دينه، فالتوحيد الاصل الأول، والعدل الاصل الثاني، ولابد ان يكون المجتمع الاسلامي متحصنا بالعدل لانه حصن، وحينما لا يتلزم مؤمن بالعدل بينه وبين نفسه فلن يكون ضامنا لاجراء العدل في المجتمع.
لذا نجد العدل من الاصول في الدين، وهو شرط للقليد؛ فلا يجوز ان تقلّد عالِماً غير عادل، وهو شرط في صلاة الجماعة، فلا يجوز ان يصلي المؤمن خلف شخص ليس عادلا، وكذلك يشترط العدل في قبول الشهادة.
العدل يسري في جميع الكون؛ فمن الشمس الى القمر، والنجوم التي هي قائمة على اساس الحق والعدل، ثم يسري العدل الى صلاتك، والى الشهادة بين الناس، الى اتباع للإمام، فالعدل اشبه ما يكون بالطاقة الكهربائية، فهي حينما تكون موجودة وسارية فإن الغرفة تنوّر، والثلاجة تشتغل، والمكيف يعمل، اما إذا لم يكن هناك طاقة كهربائية، فإن الاجهزة تتحول الى (سكراب).
حينما لا يكون العدل ساريا في المجتمع فلا يمكن اقامة حجر على حجر، لان العدل هو الطاقة السارية في الكون، وبسببه نحن نعبد الله، وبثقتنا بالله ـ عز وجل ـ نعمل.
العدل من دعائم الايمان سواء كان العدل في الحاكم أم المحكوم، ولاشك ان كلمة العدل الى الحاكم تمس المجتمع كله، والقرآن الكريم والاسلام يصنّف القيادات الى صنفين؛ قيادة عادلة، وقيادة ظالمة، يقول القرآن الكريم عن أئمة العدل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}، فذلك الإمام الذي يعبد الله، ويفعل الخير، ويلتزم بالمبدأ هو الإمام الذي يدعو الى الجنة، وفي مقابل هذا الإمام هناك إمام الجور، يقول ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ}، عن محمد بن منصور قال: سألت عبدا صالحا، الإمام الكاظم، عليه السلام عن قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حُرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق”.
⭐ الانسان قد ينوي العدل، لكن بجهله يظلم! فلا يكفي أن تكون ناويا للعدل، فلابد أن تمتلك المعرفة أيضا، فالحاكم الذي يريد أن يكون عادلا لكنه لا يعرف حقائق الامور ولا يمتلك أي معرفة، فإنه سيظلم المجتمع اقتصاديا
أئمة الجور هم منابع الفحشاء والفساد، وهذا ما بطن من الفواحش، فخلفية الفاحشة في المجتمع هي القيادة الجائرة والفاسدة، فحينما ننظر الى مجتمع فاسق فلابد أن نفتش عن الرأس الفاسد فيه، فمن ذلك الرأس تمتد الفحشاء في المجتمع.
وإذا كانت القيادة في صورة صلاة فإن الاسلام يشترط فيها العدالة، فمجرد ان شخصا يتقدمك وأنت في حركاتك في الصلاة تسير خلفه لابد ان يكون ـ الإمام ـ عادلا، وإلا لا تجوز الصلاة خلفه، فكيف بقائد أعلى في الدولة؟ لان الدولة تتمحور حول شخصيته، فإذا لم يكن جائزا ان نصلي خلف إمام ليس عادلا، فكيف يجوز لنا ان نتبع إماما جائراً، ورئيسا لا يتلزم بالمبدأ؟!
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “من عمل بالعدل حصّن الله ملكه”، ويقول عليه السلام: “إن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلّ وضُل به، فأمات سنّة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة، وإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله، يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها”.
العدل يقوم على فهم الحقائق، والاعتماد على العلم، ومعرفة الاحكام، وحالة نفسية هي الحلم، فالحياة قائمة على العدل، وهو قائم على الفهم لان من يفهم حقائق الامور يكون عادلا، وأن يكون العدل قائما على العلم، فهذه مقولة حضارية متقدمة جدا، لأن الانسان قد ينوي العدل، لكن بجهله يظلم! فلا يكفي أن تكون ناويا للعدل، فلابد أن تمتلك المعرفة أيضا، فالحاكم الذي يريد أن يكون عادلا لكنه لا يعرف حقائق الامور ولا يمتلك أي معرفة، فإنه سيظلم المجتمع اقتصاديا لانه جاهل، وعليه ان يعلم سواء العلم بالاحكام، اوالعلوم الأخرى؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
كثيرون من الناس يسرعون الى الظلم لان نتائج العدالة ـ عادة ـ لا تكون آنية، خصوصا في مجتمع يمارس الظلم، ونتيجة العدل كأي تأتي في النهاية كباقي نتائج الحقائق الأخرى، فلا تتوقع نتيجة فورية للعدل، فالعدل من دعائم الايمان، وهو ـ أي العدل ـ قائم على فهم حقائق الكون.
- مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي (حفظه الله).