من أوضح الأصوات التي تدل على الحياة والتي تربطنا بمصدر الطاقة الأكبر؛ هو البارئ –جلّ وعلا-، والجميل فيها أن هذا الصوت مواكبٌ ومدعّم من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ولهذا هو نداء الروح الذي تشعر به كلما ظمئت واحتاجت الارتواء من معينها الصافي و الرباني.
فالمناجاة؛ هي حديث المُحب لمحبوبه، وهو موضوع يلقي بظلاله على مفردة الدعاء، لكن الفرق بينهما أنها أخصّ، و أقرب، و أكثر شفافية، بينما الدعاء؛ هو طلب الداني من العالي وقد يصدر منه برغبة، وقد يصدر منه باستثقال، وقد يصدر بإكراه، وقد يصدر لحاجة دنيوية، وهو عام بكل الأوقات.
-
البدن والروح
مثلما يمرض البدن ويحتاج لمراجعة طبيب و أخذ العلاجات اللازمة؛ تمرض الروح وتحتاج العلاج الشافي، ولهذا فمن المهم اجراء الفحص الدوري لها بين مدة وأخرى لاكتشاف امراضها واقتطاع الأعشاب الضارة التي تحيط باشجارها الباسقة المكتظّة، ومع ان التشخيص صعب ويحتاج لدربة، لكن هنالك ترهلات للروح يجب ازالتها بالتمارين الروحية، فذاتُك كالبحر يحتاج منك ان تغوص فيها لاستخراج ما اودع الله فيها من معادن نفيسة وقدرات كامنة.
وهنا يأتي دور الطقوس العبادية؛ ومنها المناجاة التي تعيد ترميم علاقة الانسان بربه، وبناء جدرانه المتهشّمة، وتدعيم اساساته المنهارة من جراء كثرة الزلازل المادية والمعنوية.
-
كيف تكون المناجاة رصيداً وغذاءً روحياً؟
الإمام زين العابدين في الصحيفة السجادية يضع يده على الجرح ويتحدث مع الله -جل وعلا- بلغة شفافة، مرهفة، “يتحدث عن الذنوب، عن المعاصي، عن الأخطاء، لكن مع ذلك هو لا يدخل بوابات اليأس والقنوط، بل يربط الانسان بحبال الإرادة، والمودة، والمحبة، والتوبة، و العودة الى الله، وها هو يناجي ربه بمناجاة المريدين إذ يقول:
“إلهِي فاسْلُكْ بِنا سُبُلَ الْوُصُولِ إلَيْكَ، وَسَيِّرْنا فِي أَقْرَبِ الطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ، قَرِّبْ عَلَيْنَا الْبَعِيدَ، وَسَهِّلَ عَلَيْنَا الْعَسِيرَ الشَّدِيدَ، وَأَلْحِقْنا بِعِبادِكَ الَّذِينَ هُمْ بِالْبِدارِ إلَيْكَ يُسارِعُونَ،وَبابَكَ عَلَى الدَّوامِ يَطْرُقُونَ”.
-
من أين نحصل على الاستقرارالروحي ؟
هناك طرق متعددة للحصول على الرصيد والاستقرار الروحي؛ ففي القرآن الكريم يقول، جلّ وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}، وفي آية كريمة اخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ولكن أقرب الطرق، و أقصرها ما يوصلني إلى الرصيد الروحي، هو طريق المناجاة ،والانفتاح على الله بلحظات القرب منه، -جلّ وعلا.
* هل للمناجاة أماكن و أزمنة خاصة ؟
قد ينبع هذا السؤال من فطرة الانسان، كمن يسأل الطبيب عن وقت أخذه للعلاج.
نعم؛ في موضوعة المكان تتجلى وتبرز عندنا أماكن عظّمها الله، و أحبّ العبادة فيها، وأن يُذكر فيها اسمه؛ مثل: المشاهد المشرفة في الحج، وعند البيت الحرام، وعند الاضرحة المقدسة، ولاسيما حرم المولى الامام الحسين، عليه السلام، لاقتران الدعاء بالاستجابة تحت قبته، وايضاً؛ وفي الأماكن الطاهرة والمخصصة للعبادة؛ مثل المساجد.
اما عن الأزمنة، فغير خاف عن الجميع أن أشهر الدعاء والمناجاة تبتدئ وتتركز بشهر رجب الاصب، ويرتفع المستوى وتعلو وتيرة الدعاء والابتهال الى الله –تعالى- بشهر شعبان الأغر، لحين ما تتوج بشهر رمضان ومائدته الربانية المباركة، و المتاحة للجميع، بادعيته وصلواته المسنونة والمروية عن المعصومين، عليهم السلام، في ايام هذا الشهر الفضيل، لحين الوصول لذروة الصلة بين العبد و ربه في ليلة القدر المباركة، وهي ليلة خير من ألف شهر، لتمثل قمة الذروة في الرحمة الإلهية بلا حساب وبكرم منقطع النظير.
-
شبابنا والمناجاة
قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أوصيكم بالشباب خيراً فإنهم أرق أفئدة”، اذ لا يخفى على الجميع قدرات الشباب الكبيرة، وكونهم عماد المستقبل.
إن الحاجة ماسة في مجتمعاتنا إلى الانفتاح على الشباب، وتجسير العلاقة معهم، من قبل العائلة، وعلماء الدين، والمسؤولين، لمساعدتهم على فتح أبواب التواصل والدعاء والمناجاة مع الله -جل وعلا- .
وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة تطوير الخطاب التربوي والديني مع الشباب، بحيث يكون أقدر على التأثير فيهم، فشباب اليوم منفتحون على لغة وسائل الإعلام الجذابة، ومطلعون على كثير من المعارف والعلوم المعاصرة، وهم يشاهدون أساليب التخاطب الوجداني والعاطفي، وإتاحة الفرصة للنقاش والحوار وتفهم الرأي الآخر، والمشاركة بالتجربة مع من هم اكبر سناً في تغيير الواقع الحالي والمستقبلي، لذا فان وجود المناجاة في البرنامج الروحي والمعنوي للشباب يمثل حجر زاوية في إنجاح دورهم التنموي والبناء في المجتمع والامة، وهذا ممكن من خلال ايجاد مصاديق عملية للعلاقة بين الشباب والمناجاة مع الله –تعالى- منها:
1- تبيان ثمار المناجاة على حياة الشاب.
2- أثرها في اطمئنان الشاب نفسياً وتحفيزه و إنهاء حالة الخوف والقلق لديه.
3- فتحها لباب كل النجاحات على المستوى الشخصي والمجتمعي.
4- الهالة النورانية والطاقة والجذب التي تمنحها المناجاة للشاب نفسه ويستشعرها من حوله كذلك.
5- تحقيق مفاهيم السعادة التي يطمح لتحقيقها كل الشباب من كلا الجنسين.
6- التيقن من باب التوبة المفتوح للجميع عبر جسر المناجاة القوي، والقويم، والمستقيم.
-
لذيذ المناجاة
ليس بخاف على الانسان اللبيب أهمية ساعات السحر والليل في فتح باب المناجاة، والتركيز عليها لما لها من خلوة مع العزيز الجبار، والانقطاع عن المتعلقات والمشاغل الدنوية.
ويظهر هذا النبض الذي يختزل الحياة بكل معانيها عندما نستمع مناجاة سيد الساجدين، عليه السلام، بساعات الليل البهيم:
“الهي غارت نجوم سمائك، ونامت عيون أنامك، وهدأت أصوات عبادك وأنعامك، وغلقت الملوك عليها أبوابها، وطاف عليها حراسها، واحتجبوا عمن يسألهم حاجة أو ينتجع منهم فائدة، وأنت إلهي حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم، ولا يشغلك شيء عن شيء، أبواب سمائك لمن دعاك مفتحات، وخزائنك غير مغلقات، وأبواب رحمتك غير محجوبات”.
او عندما نقرأ دعاء “الحزين” الذي يؤنسنا بعد تراتيل صلاة الليل: {أناجيك يا موجوداً في كل مكان لعلك تسمع ندائي، فقد عظُم جُرمي وقلّ حيائي مولاي يا مولاي، أيّ الأهوال أتذكّر، و أيّها أنسى، ولو لم يكُن إلا الموت لكفى، كيف وما بعد الموت أعظم و أدهى}
-
معطيات المناجاة
1- الاعتراف بالذنب والتقصير في جنب الله تعالى.
“وإن كان قد دنا أجلي ولم يدنني منك عملي فقد جعلت الإقرار بالذنب إليك وسيلتي”.
2- العودة والأوبة إليه تعالى.
إذ لا ملجأ منه إلا إليه. وهنا يشعر الداعي والمناجي أن اللغة قد تبدلت من الألم والحسرة والإحساس بالسقوط، إلى الحماسة والحياة الجديدة والاستبشار أمام التفضل والرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء.
3- التشافي الروحي وكأن يد الغيب امتصت كل الاوجاع والآهات للقلب المعذّب الواله.
4- “إلهي أُنظر إليّ نَظْرَ من ناديته فأجابك، واستعملته بمعونتك فأطاعك، يا قريباً لا يبعد عن المغترّ به، ويا جواداً لا يبخل عن من رجا ثوابه”.
5- يقظة القلب والجوارح التي يلقيها المولى بنفحاته على عبده. ولا يقف الأمر عند هذا الحد. بل يجد فجأة الإنسان ذاته، ويرى من الحقائق ما لم يكن يراه من قبل فيدرك معنى العزّة والكرامة والأمن في كنف المولى.
“إلهي إن من تعرّف بك غير مجهول، ومن لاذَ بك غيرُ مخذول، ومن أقْبَلتَ عليه غيرُ مملول”.
6- السعي إلى معرفته تعالى بالمعرفة القلبية بعد إذعان العقل وتصديقه بالحقيقة القدسية المهيمنة على الوجود.