يقال إن أحد الفلاسفة بلغه ظهور نبي جديد برسالة سماوية الى قوم ذلك الزمان، فقيل له: هلّا ذهبت اليه وسمعت منه شيئاً تستفيد منه؟ قال: لا حاجة لي به، فقد وصلت مرحلة من الادراك يغنيني ما جاء به هذا النبي!
هذا من معشر الفلاسفة المعنيين بالتنظير في أمور الفكر والعقيدة، فقد بشروا طيلة قرون متمادية بقضية جوهرية متفق عليها تقريباً؛ أن بامكان أي انسان ان يكون نبياً لنفسه! فهو الذي يحدد القيم والمعايير والاحكام، حسب الظروف والحاجات، ولا وجود لسنن وقواعد ثابتة.
كذا الحال في معشر الحكام واصحاب العروش والكراسي، فانهم ايضاً قالوا باستطاعة الانسان ابتكار نظريات وقوانين لنفسه تفيد حاضره ولا بأس من أن «يأكل الخبز بسعر يومه»!، وربما لا أجدني مضطراً لسوق أمثلة عديدة لحكام بهذا النمط من التفكير، إلا مثل واحد وقريب جداً ومعاصر من العراق؛ عندما رفع رئيس النظام البائد، كتاباً الى جانبه، خلال اجتماع حزبي، وقال: «تكفينا مبادئ الحزب في تكوين انسان ناجح وقوي….»، فيما كان يخوض نقاشاً حول كيفية مواجهة ظاهرة التديّن في المجتمع العراقي في ثمانينات القرن الماضي.
أما النصوص الدينية؛ من الكتاب المجيد المنزّل من عند الله -تعالى-، ومن الروايات والاحاديث المنقولة عن النبي والأئمة المعصومين، عليهم السلام، وايضاً سيرة حياتهم، فهي تمثل من وجهة النظر هذه؛ تراثاً جميلاً ومحبباً للنفوس، يفيد القراءة للترف الفكري، فعندما نقرأ عن عدالة أمير المؤمنين -مثلاً- او انسانيته، وتنمّره في ذات الله، فهي إنما تمثل سبقاً معرفياً وأدبياً على ما أجاد به يراع أدباء كبار في عالم اليوم أمثال؛ فيكتور هوغو، ووليام شكسبير، ودايستوفيسكي، ممن قدموا لوحات انسانية رائعة تمثل عند شعوبهم آثاراً مقدسة ومصادر إلهام للقيم الانسانية والاخلاقية.
تبقى القيم والمفاهيم الدينية التي واكبت حياة الناس طيلة اكثر من اربعة عشر قرناً، فيما يتعلق بالدين والاخلاق، وطريقة تفسيرها ومنهجتها لتكون منهجاً للحياة، مثل حجاب المرأة، والشعائر الحسينية، وانتظار الامام المهدي -عجل الله فرجه- والعلاقة بين المرجعية الدينية والمجتمع، فان العمل ما يزال جارياً من قبل جهات عدّة لالصاقها بالتقاليد والاعراف الاجتماعية المتوارثة، وأن ما يقوم به الناس، إنما هي من صنع التقاليد الاجتماعية المتغيرة والمتطورة مع الزمن، ولا علاقة لها بالثوابت والاحكام الدينية.
-
إلصاق الفشل بالدين
هذه الرؤية، كلما تجذرت في مساحات بارض الواقع اكثر، كلما أثمرت عن ظواهر «انفصامية» بين الدين و حياة الانسان بشكل عام، وكانت عملية الترويج لافكار من قبيل التفكيك بين الايمان والسلوك البشري، فالصلاة -مثلاً- ليس بالضرورة ان تنهى عن الفحشاء والمنكر! او الفصل بين الماضي، رغم ما فيه من تجارب وعبر، وبين الحاضر والمستقبل، مهما كانت حاجته الى هذا التاريخ، والأخطر من كل ذلك؛ جواز الجمع بين المتناقضات، مهما كان الموقف الرافض من العقل والمنطق.
وحتى يكون لهذه الرؤية والفكرة مصداقية عملية، جرى العمل بشكل منهجي ودقيق لربط كل ما يمتّ الى الدين والاخلاق بصلة، مع كل اشكال الفشل والانحدار في سلوك الحكام في تجاربهم السياسية، فكان التزامن المعدّ له سلفاً بين التجربة الداخلية من داخل كيان المجتمع الاسلامي، كما حصل في العراق، والتجربة المستوردة من داهليز المخابرات الاقليمية والدولية، كما حصل مع ما يسمى بتنظيم داعش، وقبلها تنظيم القاعدة، التي قامت على أموال خليجية وعقول غربية.
وليس اعتباطاً أن نسمع حتى اليوم من وسائل اعلام غربية، عن وجود «تنظيم الدولة الاسلامية» في نشرات الاخبار، رغم ما عرفه العالم ولمسه بكل جوارحه، من جرائم وأعمال وحشية لهذا التنظيم في بلادنا الاسلامية والبلاد الغربية ايضاً، وعدم وجود أية صلة بين كل هذا وبين التعاليم الاسلامية، وما جاء في القرآن الكريم، وسيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله.
وبات من السهل اليوم وسم أي دعوة لحشمة المرأة، او دعوة الشباب لاجراء التطابق بين العلم والدين، او دعوة المجتمع بشكل عام الى القيم الدينية والاخلاقية، بانه نوع من التطرف والانحياز، بل واحياناً؛ «الظلامية»! والسبب في ذلك ربما، لان الدعاة الى هذا يشعرون -هم لوحدهم- بوجود الأُصر -بضمّ الهمزة- والاغلال والرين في قلوبهم، ربما بسبب الغفلة عن الحقائق، او الابتعاد عن المصادر المعرفية الموثقة للمنجزات الحضارية للاسلام طيلة القرون الماضية.
-
لنُطلق شراع الدين بشجاعة
وبعد كل هذا يجدر بنا أن نعرج على الاجابة عن السؤال الآنف الذكر؛ هل حقاً؛ بامكاننا ان نبحر بلا شراع نحو شاطئ الامان؟
العالم الغربي حسم أمره في عملية الانتقال من القمع الفكري والتسلط الكنسي، الى رحاب العلم والمعرفة في ظل ما يسمى بـ»عصر التنوير» عندما وضع الاسس الفكرية لمنهج جديد للحياة لا يقوم على العلاقة بين الدين والعلم، وإنما بين العلم والانسان فقط، بمعنى؛ أنه لم يبحر دون شراع، و دون فنار ايضاً، بل وكان له الاثنان فوصل الى ما يريد، وترك أمر النتائج والعواقب المترتبة على التجارب العديدة لهذا المنهج الجديد، الى قادم الايام، وامكانية معالجتها من قبل الانسان نفسه، ولسنا بوارد البحث في طبيعة هذه النتائج والعواقب وما جرته على الحضارة الغربية اليوم، فقد أسهب كتابنا وعلماؤنا في الحديث عن ذلك كثيراً.
نبقى نحن في هذا العالم ممن ندّعي رصيداً تاريخياً في الحضارة والتقدم والانسانية، فهل يصحّ ان نبقى مصرين على تكرار ما قاله الفاشلون في تاريخنا في الايام الاخيرة من حياة النبي الأكرم، وبعده أيضاً؛ في المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، عندما قيّض الله للأمة من ينهض لانقاذها وإصلاح أمرها، وهو الامام الحسين، عليه السلام، بأن «حسبنا كتاب الله»! وهم لم يحكموا في حياتهم من كتاب الله آيتين؟!
الازمة ليست في تلاوة القرآن الكريم، ولا حتى حول نهج البلاغة، وتداول هذين الكتابين العظيمين، وكذا الحال بالنسبة للروايات والاحاديث المبوبة بشكل فني رائع في مئات المجلدات، فقد تسابق حكومات ومؤسسات في دول اسلامية عدة الى طباعة الكتاب المجيد، بأروع وأجمل حلّة، من حيث شكل الغلاف و جودة الورق وغيرها، كما هو الحال بالنسبة لمصادر الحديث والرواية لدى الشيعة، إنما الازمة فيما كشف عنه أمير المؤمنين في حديث خصّ به كميل بن زياد، وقد اصطحبه خارج الكوفة في أجواء روحانية استثنائية، وقال فيما قاله له:
«إِنَّ ها هُنَا لَعِلْماً جَمّاً (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى صَدره) لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً». فهو، عليه السلام، يريد منّا الفهم والادراك والاستيعاب، حتى يُصار الى نشر علوم وثقافة أهل البيت، عليهم السلام، الى العالم بأسره، وليس للمسلمين فقط، بشكل يكرر تجربة الاسلام الاولى عندما دخل الناس {في دين الله أفواجاً} عن طيب خاطر وإيمان حقيقي.
وهذا يساعدنا على ان تكون التزاماتنا الدينية والاخلاقية مسنودة بالدليل العقلي في ضرورتها وحاجة الانسان اليها، لا أن تكون نسخة من الموروث الشعبي المشحون بالعواطف والمشاعر، مثال ذلك؛ حجاب الفتيات وتقليد الشباب لمراجع الدين وعلاقتهم بالعلماء والخطباء، ومسائل عقائدية مثل؛ الشفاعة والانتظار والشعائر الحسينية، كلها يجب أن تكون التزامات عن وعي تام وفهم عميق لفلسفة هذه الامور، علماً أن بعض الامور غير الواضحة العلل، ومنها المتعلقة بالحكمة الالهية، مثل الحكمة من الصوم والصلاة وتفاصيل أدائها، هي ما يتعلق بالعلاقة بين العبد وربه، أما ما يرتبط بالعلاقة بين العبد وأخيه العبد، فان كل شيء له سبب وعلّة وحكمة واضحة، فلم يعلمنا الأئمة، عليهم السلام، أن نبكي في الدعاء والصلاة -مثلاً-، بلا سبب مقنع، او أن نحدد العلاقة بين الرجل والمرأة بضوابط وأحكام من اجل اسباب غير منطقية، وايضاً التوصية بمفاهيم اخلاقية مثل التسامح والتعايش واللاعنف، كلها أمور لها علل واضحة، و آثار ملموسة في حياة أي انسان بحيث تترك بصمات مباشرة في حاضره ومستقبله.