لا تسقط الأمم إلا بأيدي ابنائها ورجالها، وإن كان للعوامل الخارجية تأثير في هذا السقوط، إلا ان التأثير الأكبر للعوامل الداخلية، فتصرفات ابنائها هو ما يؤدي الى سقوطها، ولذلك يمكن القول: إن الحضارات تسقط وتنتهي انتحاراً، ولا تموت بشكل طبيعي.
الأمم تنتصر أو تنهزم، والحضارات تقوم أو تبيد، كلّ ذلك بفعل العوامل الداخلية، وما العوامل الخارجية إلا مكملة للعوامل الداخلية، فمثلاً؛ عندما تمتلك الحضارة قابلية النمو فهي تستفيد من نقاط قوتها الداخلية، وتساعدها العوامل الخارجية، فتنمو وتزدهر، بينما الحضارة القابلة للسقوط تتجمع فيها نقاط ضعفها الداخلية وتكون سبباً لهزيمتها كما نرى ذلك الافراد، فعندما يكون هنالك شخص يقبل بالذل فانه يكون ذليلاً، كذلك الامة التي تقبل بالذلّ تكون ذليلة ايضاً، وهذا ما نشاهده في الأمم التي خضعت للاستعمار والاحتلال، ثم تذلّ وتحتل.
هذا الانتحار الذي تُبتلى به الأمم يكون في الأغلب تدريجياً وبطيئاً، ويأتي نتيجة التخلّي عن القيم الانسانية والمثل العليا، ومن ثمّ السقوط في وادي الاستبداد والظلم والفساد، وانتحارها في ذلك يشبه الانسان الذي أهمل صحته، فلربما مات بسبب إهماله لصحته، إلا ان هذا الموت لا يكون نتيجة لإهمال بسيط، وإنما في عدم الالتزام بقواعد الصحة والسلامة، واعتماد عادات سيئة في التغذية والعمل والراحة وغير ذلك لفترة من الزمن. والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
وهذا يعني أن كل الحضارات الكبيرة تحمل في طياتها اسباب زوالها، ومن ثمّ فان الحضارات تنحدر من تلقاء نفسها نحو الانهيار، وإن كانت العوامل الخارجية تسهم احياناً في سقوطها، فمثلاً؛ انهارت الامبراطورية الرومانية تحت وطأة التوسع الاستعماري المفرط، والتغيير المناخي، والتدهور البيئي، وضعف القيادة، فالحضارة مثل الشجرة، إن كانت قد مدت جذورها في الارض، وكانت قوية الجذع شامخة، من الصعب اقتلاعها، ولكن حينما تكون ضعيفة في داخلها وخاوية، فان هبوب رياح خفيفة ربما تؤدي الى سقوطها.
“لا توجد حضارة على وجه الارض محصنة من الانهيار مهما بلغت عظمتها، فقد وصلت مساحة الامبراطورية الرومانية عام 390م الى اربعة ملايين واربعمائة ألف كيلومتر مربع، ثم تقلصت مساحتها بعد خمس سنوات فقط الى مليوني كيلومتر مربع، وفي عام 476م لم يعد لنفوذها وجود”! (هل نحن في طريقنا الى انهيار حضاري؟ – ليوك كيمب).
والسؤال هنا: هل ما قاله المؤرخ أرنولد توينبي في كتابه دراسة في لتاريخ، الذي يحلل فيه عوامل نمو ثمانية وعشرين حضارة، واسباب انهيارها، هل كان الرجل محقاً حينما قال: “إن الحضارات العظيمة تحمل في طياتها اسباب زوالها”؟
الجواب على ذلك:
إن العوامل الداخلية لها تأثير كبير ومهم في انهيار الحضارات، فاصحاب كل حضارة يساهمون بشكل أو بآخر في المحافظة على حضارتهم، او بالاسراع في انهيارها، يقول تعالى: {ضرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
ولكن كما أن للعوامل الداخلية تأثير كبير، فان ذلك لا يلغي دور العوامل الخارجية في انهيار الأمم، والآيتين الكريمتين أعلاه، تشيران الى أن العوامل الداخلية لها الأثر في انهيار القرى (الحضارات) او بقائها، وبالمحصلة؛ فان العذاب –وهو أمر خارجي- اذا نزل يكون نتيجة للعوامل الداخلية، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
الحضارات عندما تموت منتحرة
لا تسقط الأمم إلا بأيدي ابنائها ورجالها، وإن كان للعوامل الخارجية تأثير في هذا السقوط، إلا ان التأثير الأكبر للعوامل الداخلية، فتصرفات ابنائها هو ما يؤدي الى …