ملابس الإحرام البيضاء في مراسيم الحج، توحّد المسلمين جميعاً خلال أدائهم الأعمال العبادية، من وقوف في عرفات، ثم التوجه الى المشعر الحرام، ثم المبيت في منى، وحتى الطواف حول الكعبة المشرفة.
وفي شهر رمضان المبارك، ثمة فرصة اخرى توحّد المسلمين ليس في مكان معين، وإنما على موائد الاسحار والافطار، فالغني والفقير، يجتمعون في وقت واحد لتناول الطعام والشراب، فيمسكون ويفطرون.
وفي مراسيم إحياء اربعين الامام الحسين، عليه السلام، وهي من شعائر الله –تعالى- ثمة فرصة اخرى ومن نوع خاص، لتعزيز أواصر الأخوة والتقارب بين المسلمين، وهذه المرة في زمان ومكان واحد؛ وهو الطريق المؤدي الى كربلاء المقدسة، حيث يلتقي الايراني والخليجي والباكستاني والافغاني واللبناني وحتى الافريقي، ومن مختلف انحاء العالم، في منظر ربما لا يتكرر في أي مكان آخر.
-
“أخٌ لك في الدين”
من أبرز ما تنتجه الأخوّة؛ مشاعر المسؤولية الجماعية، كما الأسرة الواحدة التي يشعر الأخ بمسؤوليته إزاء أخيه، فلا يحصل التبرؤ والتنصّل من المسؤولية إلا في حالات خاصة تتبع اسباب وعلل معينة، ولعل هذا ما يفسّر المؤاخاة التي بادر اليها رسول الله، صلى الله عليه وآله، في أولى خطواته لتأسيس المجتمع الاسلامي لدى دخوله المدينة، عندما آخى بين المهاجرين والانصار، فلم يبق سيد وعبد، او فقير وغني، او من ينتمي الى هذه المدينة او تلك القبيلة، وبعدها كان للنبي الاكرم كلمته المدوية: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.
وعلى الأثر كان أمير المؤمنين، عليه السلام، في برنامجه السياسي الشهير المسمّى بـ “عهده” الى مالك الأشتر قبل ان يتسلّم ولاية مصر، بأن الناس صنفان: “إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، فالأخوة تمثل احد المفاصل المهمة في كيان المجتمع الاسلامي.
ليس هذا وحسب، بل حتى في حالة الحرب، وما يترتب عليها من اجراءات خاصة، وما يسمى بحالة طوارئ، او اجراءات أمنية ومخابراتية، فان الامام علي، عليه السلام، وبعد ان يخوض تلك الحرب الضروس مع الخوارج، يقول عنهم: “إخواننا بغوا علينا”.
في مقابل هذه القيمة السامية، نلاحظ من سعى الى تمزيق المجتمع وإثارة النعرات الجاهلية فيه، وإعادة الحديث عن العربي والأعجمي، او الحديث بين السيد والعبد، وقد حمل هذا اللواء؛ الأمويون أول مرة بقيادة معاوية خلال مواجهته الشرسة لنظام الحكم الذي تولاه أمير المؤمنين، عليه السلام، وحتى لا نخوض في التاريخ كثيراً، ونحن نتحدث عن ثمرة من ثمار زيارة الاربعين، نقتصر بالاشارة الى أن المجتمع الاسلامي في النصف الثاني من القرن الاول الهجري، شهد توسعاً ملحوظاَ في نوعية الاقوام والاعراق بفضل الفتوحات الاسلامية، وقد اندمج غير العرب في هذا المجتمع الكبير، وتعلموا اللغة العربية وحفظوا القرآن وواضبوا على الفرائض الدينية، يحدوهم الأمل بأن يعيشون الحياة الطيبة في ظل الاسلام وما بشر به من مبادئ وقيم اخلاقية رفيعة، بيد انهم تفاجأوا بتوصيفهم “المواطن من الدرجة الثانية”، فكانوا يبعدون من المناصب العليا مثل الجيش وبيت المال وغيرها، إنما كانت الامتيازات والمناصب لذوي الأصول العربية ممن كانوا ينتمون الى الحزب الأموي، وقد أورد التاريخ شواهد عديدة على ضغوطات شديدة تحملها المسلمون غير العرب من الحكام الأمويين، وكاد الأمر يؤدي الى الانفجار ضد النظام الاسلامي برمته، والرجوع الى دياناتهم الاولى، لولا نهضة الامام الحسين، عليه السلام، التي أعادت الروح الى الاسلام بكل مفاصله، ومنها؛ الأخوة الاسلامية.
-
“من جنسيات اجنبية…”!
بعد مرور تلكم القرون الخوالي، وبعد اندثار حكم معاوية وأشباهه، هل يصحّ لنا إطلاق لفظ “الاجنبي” على زائر الامام الحسين، عليه السلام، من أي بلد في العالم؟
نعم؛ ليس من السهل تجاوز الاجراءات والقوانين التي مزقت الامة الواحدة الى دويلات تفصلها خطوط غير مفهومة على الارض (حدود)، ولكن من السهل جداً التعامل بشكل خاص في هذه المناسبة وغيرها من الزيارات المليونية وإطلاق لفظ “زائر” وليس اجنبي على الداخلين للاراضي العراقية، مع العلم بوجود هذه التسهيلات بقدر الامكان من قبل المسؤولين المعنيين في المنافذ الحدودية والمطارات، لمراعاة القضية الأهم في الوقت الحاضر، وهي توفير أكبر قدر من الاجواء الأمنية لهذه الزيارة المليونية.
مع كل ذلك تبقى المسألة دون الطموح، والسبب في تراكم السلبيات طيلة عقود، وربما قرون مرت على الامة، حتى بات من الصعب ألا يتعامل الايراني – مثلاً- مع غير الايراني، على أنه ليس بغريب او اجنبي، وهكذا بالنسبة للشعوب الاخرى في البلاد الاسلامية، بسبب وجود عقبة كأداء اخرى وهي؛ بطاقة التعريف التي صنعها الاستعمار وترجمت في بلادنا الى اللغة العربية لتكون؛ “الجنسية” التي تميّز ليس فقط بين الايراني والعراقي، وإنما بين العراقي والسوري، وبينهما وبين اللبناني الملاصق له في الارض!
وفي زيارة الاربعين درسٌ بليغ للشعوب كافة بأن النهضة الحسينية تعطي رسالة دقيقة وواضحة لهم وللعالم بعدم وجود اجنبي وغريب بين ابناء الدين الواحد الذي ضحّى الامام الحسين وأهل بيته من أجل إحيائه وإحياء قيمه ومبادئه.
وحتى من الناحية الشرعية فان من غير الجائز التمييز بين ابناء الدين الواحد بلفظ “الاجنبي”، وهو ما أكده سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في موسوعة الفقه بان ” لا يحق للمسلم أن يسمي أخاه المسلم أجنبياً، ولا أن يحرمه من مزاياه، مهما كان بينهما اختلاف في اللون أو العنصر أو الإقليم، فإنّ الأجنبي في لسان الدين هو غير المسلم، وهذا خلاف صريح الآيات والروايات الكثيرة، وخلاف حق المسلم على المسلم، إضافة إلى أنه أسوأ من التنابز في الألقاب، الموجب لانفصام وحدة المسلمين…”. موسوعة الفقه، ج ۱٦ ص ٣٣٦
وهنا تبرز مصداقية عملية لارتباط النهضة الحسينية بالرسالة المحمدية على الصعيد الاجتماعي، فقد أزال النبي الأكرم، حاجزين اساس؛ الاول: الحاجز الجغرافي، بأن وحّد بين بلاد المسلمين، والثاني: الحاجز النفسي، بأن وحّد بين القلوب وجعل المعيار؛ التقوى والايمان والعمل الصالح، وليس العرق او اللغة او القومية او المستوى الاجتماعي، وبفضل هذا النسيج الاجتماعي المتألق انطلقت الحضارة الاسلامية الى أعالي التقدم العلمي والمعرفي وقدمت ما قدمت من انجازات ما يزال علماء الغرب يشهدون لها بالفضل.
وفي كربلاء الحسين، التحم العبد بالسيّد (مولى أبي ذر)، بل والمسلم بالمسيحي (وهب) ليصنعوا الملحمة التاريخية المدوية والهادفة الى إصلاح ذات الانسان، ومنذ تلك الواقعة، اضحت كربلاء مصدر إلهام للثوار والمصلحين من البلاد الاسلامية وحتى غير الاسلامية.