تستوقفني مفارقة تاريخية مؤلمة في العلاقة بين الشريحة المثقفة وجماهير الشعب طوال العقود الماضية، ربما منذ ستين عاماً.
اعتقد أن هذه الشريحة كانت في السنوات الخوالي تضع نصب عينيها الحديث النبوي الشريف: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم”، ففي سنوات المحنة والعمل ضد التيارات الفكرية الوافدة، وايضاً؛ ضد سياسات الأنظمة الديكتاتورية الظالمة، ومنها؛ العراق، لم يكن العلماء والأدباء والفقهاء في مرتبة قيادية بالمجتمع، فقد كانت القيادة بيد الأحزاب السياسية الحاكمة وضابط الجيش، وما لديهم من أدوات المال والسلاح والمخابرات والإعلام ينتزعون من خلالها ولاء الناس
فكانوا يصفقون ويهتفون بروح “القائد”، و”منجزات الثورة”، بينما تبقى القلوب التي في الصدور مع تلك الشريحة الوادعة بالمجتمع، حيث الاحترام والتبجيل والتقدير، كونهم يمثلون الصورة الناصعة للقيم الدينية والأخلاقية، فقد بلغوا الذروة في التضحية بأنفسهم من اجل قول كلمة الحق بوجه السلطان الجائر، وهذه المواقف لن ينساها الناس لأولئك الابطال حتى اليوم.
🔺 ظروف معقدة طرأت على الساحة قلبت المعادلة القيادية رأساً على عقب بشكل غريب وغير متوقع، فقد فضّلت هذه الشريحة المفترض انها طليعة المجتمع والأمة؛ السياسة على الأخلاق في ظل “التحولات الديمقراطية”
ظروف معقدة طرأت على الساحة قلبت المعادلة القيادية رأساً على عقب بشكل غريب وغير متوقع، فقد فضّلت هذه الشريحة المفترض انها طليعة المجتمع والأمة؛ السياسة على الأخلاق في ظل “التحولات الديمقراطية” حيث أصبحت الشهرة، والمنصب، والراتب، والتحالفات مع هذا او ذاك، ذو أولوية يستوجب توظيف كل شيء، حتى الأخلاق والدين، بدعوى اكتساب القوة والعودة ثانية الى الأخلاق والدين بخدمة أكبر!
ولا أجدني بحاجة الى الخوض في هذا السياق، لأن الواقع أفصح بالحال، إنما المهم الوقوف عنده مليّاً، دخول الناس افواجاً في هذه المرحلة تحت ظل القيم الأخلاقية والإنسانية، وقد لاحظت هذا منذ الأيام الأولى من الإطاحة بنظام صدام، وما زال الحال مع اختلاف المظهر، فالناس في تلك الأيام كانت تعبر عن مشاعرها ببث الأدعية والمراثي ومقاطع لخطباء المنبر الحسيني، في السيارات والأماكن العامة، أما اليوم فان ساحتهم؛ مواقع التواصل الاجتماعي يدافعون من خلالها عما يعدونه قيمة إنسانية لمطرب او مقدمة برامج، أو صحفي –من الجنسين طبعاً- حتى وإن لم يكن ملتزماً دينياً، فهو “لم يسرق”، ولم “يخُن الأمانة”، أو “هذه أشرف من الفاسدين”.
هذه الإشارة إراها مساهمة بسيطة في بحوث مستفيضة حول العلاقة المختلّة بين المثقفين (علماء –أدباء- فقهاء)، وعامة الناس، كما تم تسليط الضوء في وقت سابق على حالة “تجاوز المثقفين”، الى ثقافة يرتضيها الناس، بغض النظر عن طبيعة هذه الثقافة ومصدرها، والغريب أننا نقرأ في كتابات المثقفين، ولاسيما علماء الدين التأكيد المشدد على محورية الأخلاق في القاعدة الفكرية والمنهجية لأي عمل إسلامي –رسالي ــ
وأن الأخلاق هو الرابط المقدس بين الجانبين، وقد ذهب سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي الى أبعد من هذا عندما أوجد “الصلة بين التزكية والمنهج العلمي”، في كتابه: الحوزات العلمية بين قيم التراث، وتحديات المستقبل، فهو يعد تزكية النفس، وهي مرحلة عليا بعد التربية والتهذيب، لطلبة العلوم الدينية خطوة في الاتجاه الصحيح للوصول الى “المؤثرات الخارجية الحقيقية، أي على آيات الحقيقة من دون أن تزاحمها التصورات الذاتية”، ويقصد بها الحالات السلبية في النفس مثل؛ الحسد والحقد والأنانية والكِبر، بما يعني أن الباحث عن حقائق العلوم الدينية عليه أولاً؛ أن يجد الحقائق الإنسانية في الخلق الكريم والسلوك الحسن في نفسه.
وممن أكثر في الكتابة، وأسهب في الحديث عن هذا المطلب؛ سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي بما لا يُعد طيلة سنوات من عزمه، واصفاً الأخلاق الحسنة حلقة الوصل الأولى بين النخبة المثقفة والجماهير، وأي خلل في هذه الحلقة تنتفي هذه العلاقة مهما كانت أفكار وتضحيات هذه النخبة، مستشهداً بما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وآله، مع أصحابه وعامة المسلمين من تواضع، وحِلم، وصبر، وصدق، وأمانة، وغيرها من الفضائل والمكارم التي تمكن من خلالها تقويم السلوك البدوي، وصياغة شخصية جديدة للإنسان العربي بشكل خاص، والمسلم بشكل عام.
🔺 الأخلاق هو الرابط المقدس بين الجانبين، وقد ذهب سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي الى أبعد من هذا عندما أوجد “الصلة بين التزكية والمنهج العلمي
في الوقت الحاضر لا نرى مشكلة في الظاهر العام من المشهد الثقافي –الديني، فـ {كلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلتهِ}، وله ظروفه، وقناعاته، ولا تقاطع بين الجهتين، وربما نجد المجاملة في المحافل والمجالس والأماكن العامة، بيد أن المتضرر غير المرئي وغير الملموس؛ نفس هذه القيم الأخلاقية التي تتعرض للتغييب واستبدالها بمصطلحات مثل؛ الانفتاح، والاعتدال، والوسطية، و “لا داعي التمسك كثيراً بالأسود او الأبيض”! وربما نكون أمام مشهد تراضي مثير في هذه المرحلة تحديداً، حيث يسكت طرف عن آخر في عملية “تخادم غير مكتوب”، إن صحّ التعبير فتذهب النخبة المثقفة في حال سبيلها نحو التنظير والانفتاح على تطورات العالم
فيما تذهب الجماهير ايضاً الى حال سبيلها في اختيار ما ترتأي من النظريات والأفكار ما يناسب ظروفها المعيشية والنفسية، فلا مسؤولية متقابلة بالموضوع لبناء حضاري على أساس القيم والمبادئ، كما كانت تتحدث به المؤلفات العتيدة في القرن الماضي، وما ضحى من أجلها خيرة الشباب والشابات من أبناء هذا المجتمع.
وحتى لا نبتعد عن التفاؤل والأمل، فان الساحة لا تخلُ من خطباء وعلماء وكتاّب مخلصين يبذلون جهوداً مشكورة لتثبيت دعائم العلاقة بين السكتين على أساسٍ من القيم الأخلاقية والدينية حتى يسير قطار الوعي والتنمية والتكامل نحو الامام بشكل آمن.