ولد الإمام السجاد، عليه السلام، يوم الخميس، الخامس من شعبان سنة ٣٨ من الهجره المباركة في المدينة المنورة.
لقد برز الإمام السجاد على الصعيد العلمي والديني، إماماً في الدين ومناراً في العلم، ومرجعا ومثلا أعلى في الورع والعبادة والتقوى حتى سلّم المسلمون جميعاً في عصره بأنه أفقه أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم؛ فقال الزهري، وهو من معاصریه: “ما رأيت قرشيا أفضل منه”.
وقال سعيد بن المسيب وهو من معاصريه أيضاً: “ما رأيت قط أفضل من علي بن الحسين”، وقال الإمام مالك: “سمي زين العابدين لكثرة عبادته”، وقال سفيان بن عيينة: “ما رأيت هاشميا أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه”، وعدّه الشافعي أنه: “أفقه أهل المدينة”.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حكام عصره من بني أمية أنفسهم، رغم ما بينه وبينهم من عداوة وخصومة، فقال له عبد الملك بن مروان يوماً: “لقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك”. ووصفه عمر بن عبد العزيز بأنه: سراج الدنيا وجمال الإسلام .
🔺 عاش الإمام زين العابدين في المدينة المنورة، حاضرة الإسلام الأولى، ومهد العلوم والعلماء، في وقت كانت تحتضن فيه ثلة من علماء الصحابة، مع كبار علماء التابعين، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم، الأعلم والأفقه والأوثق بلا ترديد
ومع هذا اعتبر بعض المؤلفين أن شهادة الإمام الحسين علي أفقدت الفكر الشيعي المحور الأساس، وهو الزعيم السياسي الذي كان محور الحركة القيادية، وأن الإمام زين العابدين انصرف عن السياسة إلى الدِين وأصبح زعيم روحيا لا علاقة له بما يجري من أحداث على أرض الواقع، بل غاية ما قام به تخريج ثلة من العلماء والفقهاء الكبار الذين أصبحوا فيما بعد مراجع في الأحكام.
وحاول بعضهم أن يعطي بعض الترجيحات لتثبيت أن الإمام، عليه السلام، أخذ قرار بالابتعاد عن السياسة، فيذكر ثورة المختار الثقفي ورفض الإمام لهذه الثورة، يؤكد عدم خروجه من مرحلة التعبد إلى مرحلة العمل السياسي، بل يمكن اعتبار فاجعة كربلاء كافية لانعزال الإمام عن الحياة السياسية.
والحقيقة أن هذا التصور هو ما أراد أن يوحي به الإمام علي بن الحسين، عليه السلام، للسلطة الأموية الحاكمة للحفاظ على التشيع ولنشر الإسلام الأصيل بشكل هادئ، وليحصل التغيير من الأرض وبشكل تدريجي، وهو ما نفهمه عندما ندرس مراحل حياة الامام السجاد عليه السلام.
- دوره العلمي
ليس الحديث عن الدور العلمي للإمام السجاد مما تجمعه السطور أو تفي بالتعبير عنه، ولكن حسبها أنها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور و ما كان يتمتع به صاحبه من منزلة.
فلقد عاش الإمام زين العابدين في المدينة المنورة، حاضرة الإسلام الأولى، ومهد العلوم والعلماء، في وقت كانت تحتضن فيه ثلة من علماء الصحابة، مع كبار علماء التابعين، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم، الأعلم والأفقه والأوثق بلا ترديد، فقد كان الزهري يقول: ما كان أكثر مجالستي مع علی بن الحسين، وما رأيت أحدا كان افقه منه، وممن عرف هذا الأمر وحدث به الشهير سفيان بن عيينة، وبمثل هذا كان يقول الشافعي محتجاً بعلي ابن الحسين التي على أنه كان: “أفقه أهل المدينة”.
هذا وقد كانت مدرسته تعج بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الأولى في بلاد الإسلام، يحملون عنه العلم والأدب، وينقلون عنه الحديث، ومن بين هؤلاء أولاده أبو جعفر محمد الباقر، عليه السلام، وعمر، وزيد، وعبد الله. أحصاهم الذهبي والزهري وعمرو بن دينار، وخلق سواهم، وقد حدث عنه غير هؤلاء رجال من خاصة شيعته من كبار أهل العلم، منهم أبان بن تغلب، وأبو حمزة الثمالي، وغيرهما.
هذا الجمع الغفير وغيرهم ممن وصف بالخُلُق الكثير أخذوا عنه علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه و منسوخه وأحكامه وآدابه، والسنة النبوية الشريفة رواية وتدويناً في عصرٍ كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثر بما سلف من سياسة المنع من التدوين السياسة التي اخترقها أئمة أهل البيت، فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير، إلى أحكام الشريعة، حلالها وحرامها وآدابها، إلى فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة على تعطيل الكثير من الأحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع، إلى الجهر في نصرة المظلوم وضرورة الرد على الظالم وكشف أساليبه الظالمة للناس.
- دوره في بلورة المعارضة السياسية
لقد وقع كثير من مؤرخين في التباس في شخصيته ودوره ووصفوه با التصوف او الانعزالية، وترك الفتوحات للمجاهدين، وتركيزه فقط على علي فلسفة النوح والبكاء و التهجد والدعاء، وهذا تفسير بعيد كل البعد عن الانصاف التاريخي والحوادث في عين الوردة والمختارشاهدة وكيف أدار حروب الثأر وارجاع الكرامة المسلوبة باسلوب خفي حتى على الد أعدائه المتربصين به؛ آل ابي سفيان وال مروان الطريد، بل وحتى على ال زبير.
و المؤسف في قراءات ودراسات الكثير من المؤرخين والمحللين السياسيين هو ارتباكهم وعدم دقتهم في تحديد أدوار أئمة أهل البيت وتفكيك مدرستهم الفكرية مع السلطات، وكذلك عدم قدرة هؤلاء المحللين على والسياسية في تعاملهم و إدراك حكمة تنوع تلك الأدوار وفلسفتها وعدم استيعاب حرص الأئمة إلى الاحتفاظ بوحدة هدفهم في المحافظة على الإسلام عقيدة وشريعة، نظرية ومنهاجاً.
وعلى هذا الأساس كان موقف الإمام السجاد، عليهم السلام، بنظرهم من الثورة والجهاد عرضة لهذا التحليل الشاطح الذي وضع أسسه صنفان من الناس صنف يحب الدعة والاسترخاء فيروح يفسر موقفه دعة واسترخاء للتغطية على فشله هو وهزيمته ونكوصه، وصنف يهوى الثورة والتمرد فيتحامل على الإمام جسارة أو تجرؤاً فيتهمه أنه اعتزل السياسة والتصدي بعد فجيعته بوالده واخوته، وغدر الغادرين من أهل زمانه، فاكتفى بالتضرع والدعاء، وبعضهم يحلل إنه أثر الدعاء والبكاء على غيرهما، لأنهما أيسر مؤونة وأقل كلفة من المواجهة والنزال وحز الرؤوس وجز الرقاب.
🔺 تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزت لدى العامة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة
ويشطح صنف آخر أكثر من هؤلاء جميعا فيزعم أنه صالح وساوم السلطة ونأى بنفسه بعيداً عن الثورات الشيعية التي تفجّرت في زمانه بل تبرأ منها في السر و والعلن، فلو توقف قليلاً أمام هذه المزاعم ودرسها بموضوعية وتأنٍ لوصل الى الحقيقة الناصعة.
- المرحلة و المنعطف
ومرحلة الإمام السجاد يمكن أن تسجل منعطفاً مهماً بين مرحلتين في عمل أئمة أهل البيت، عليهم السلام:
- الاولى: مرحلة التصدي
والصراع السياسي والمواجهة العسكرية ضد المنحرفين والمحرفين من الفاسقين والمارقين والناكثين، وقبلهم الكفرة والمنافقين وأعداء الدين الواضحين.
- الثانية: مرحلة المعارضة السياسية الصامتة
أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف أمام الضبابية والزيف الملقع بالدين، وبعد ذلك ببناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمل عبء الرسالة المواجهة الانحراف، والتحريف اللذين أغرقت أو استغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
تأسيساً على ذلك، كان على الإمام زين العابدين أن يجذّر في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدة ونظاماً، شريعة ومنهاجا، عدة أمور منها:
- تركيز ثورة الإمام الحسين عليه في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أمة جده فعلاً، أمراً بالمعروف ناهياً عن المذكر، داعياً للتحكيم دين الله، ولم يخرج (أشراً ولا بطرا) ، بل لم يخرج على إمرة (أمير المؤمنين يزيد ولم ينو تمزيق الصف المسلم أو تفريق جماعة المسلمين، وبالتالي فإنه قُتل بسيف أعداء الدين وليس بسيف جده كما كان يروّج الإعلام الرسمي آنذاك، وبعض المؤرخين المتخلفين اليوم.
- بناء الجماعة الواعية، أو كما تسمى القاعدة الجماهيرية الشعبية المؤهلة لحفظ الرسالة وحدودها، بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث أضحت تلك الجماهير لا تفرق بين المفاهيم ومصاديقها، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنيها، أو بين الأصيل والطارىء، الأمر الذي يُسبب الفتنة فعلا أو يشعلها، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الأمور.
- تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزت لدى العامة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة، ومن ثم توضيح الخرق الفاضح الذي تم خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية، وبالأخرى فصل الدين عن السياسة، وإبقاء مقاليد الأمور بيد الصبيان والعلمان، يعبثون بمقدرات البلاد والعباد.
- العمل بدقة في مقطع زمني بالغ الحساسية، يحسب على الإمام حركاته وسكناته، وبعد عليه أنفاسه وكلماته من جهة، وموازنة ذلك مع عمل إعلامي وتبليغي بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين، بعيدا عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق، من جهة أخرى، وبهذا استطاع الإمام السجاد عليه السلام، أن يقود الأمة ويكمل الثورة ويحقق بقية أهدافها، لكن بما ينسجم مع طبيعة المرحلة وتعقيداتها، حتى لو لم يتسلم سلطة أو حكماً.
فسلام عليه بيوم مولده الذي اشرق شعبان بنوره.