يتفق علماء النفس وعلماء الاجتماع على أن كرة القدم أكثر الألعاب الرياضية تأثيراً في السلوك الفردي والجمعي لجمهوره، كما أن لها مدخلية في مسائل عديدة ومتشابكة مثل؛ المال، والعلم، والذكاء، والدهاء، والسياسة، والثقافة، فلا نجد تسمّر جمهور عريض في العالم على الشاشات الصغيرة والكبيرة، ولا اجتماعهم بالملايين فرحاً أو حزناً على لعبة رياضية مثل مباريات قدم القدم، بما يعني أننا لسنا فقط أمام مباريات مدتها تسعون دقيقة أو اكثر، بل أمام افرازات ما بعد هذه المباريات لفترات طويلة، تتمثل في مشاعر واحاسيس تنبعث من كوامن النفس لتخرج الى الواقع على شكل انتماءات وقناعات للافراد وللجماعات ايضاً.
التوجه العاطفي للناس إزاء كرة القدم موجود في العالم، لاسيما في البلاد الخصبة بالنجوم والتاريخ الطويل لهذه اللعبة، بيد إن هذه العاطفة تتغوّل في بلادنا، ومنها؛ العراق لانها تتعلق بالوطن وليس بنادي معين كما هو الحال في البلاد الاخرى، ولهذا حديث طويل لا نخوض فيه، ولماذا نجد هذا التعاطف الجيّاش مع المنتخب الوطني في العراق، ولا نجده في مع المنتخب الفرنسي او الانجليزي –مثلاً- اذا ما فازوا في مباريات معينة، ما خلا كأس العالم، فهو استثناء، لانه يعني التسيّد على العالم من خلال كرة القدم.
ليكن الاحتفال بهيجاً والفرحة غامرة على الصغار والكبار عندما نفوز بمبارايات مع فريق ما، حتى وإن كان هذا الفوز يفصلنا عن المباريات النهائية خطوات عدّة، لكن أن تطغى العاطفة ونطلق لها العنان في إصدار الاحكام والاستنتاجات بما يُخرج صاحبه من الذوق العام، والمنطق، والعقل، فانه يعطينا نتائج عكسية، ولن نكون بخدمة كرة القدم لتتطور في بلادنا كما تطورت في البلاد الأخرى مثل البرازيل، والارجنتين، والاورغواي، وهي من البلدان الفقيرة في العالم، ولكنها بنت لهذه اللعبة قواعد علمية، تحتكم فيه الى العقل والمنطق، وليس الى العاطفة والمزاج، وكل ما من شأنه التغيّر والتبدّل في لحظات حاسمة، كما حصل في مباراتنا الأخيرة مع المنتخب الاردني في مرحلة التصفيات في بطولة كأس أمم آسيا المقامة في قطر.
خلال دقائق معدودة انهار كل شيء، وتحولت النتيجة من 2-1 لصالح منتخبنا، الى 3-2 لصالح الاردن في لحظات تراجيدية عجيبة، كان بطلها المزاج الشخصي الذي حلّ محل العلم والعقل والخطة المفترضة، فغاب الابطال والهدافين ممن تغنّوا بهم الجمهور لايام وأشهر طويلة، وأنهم أمل الجماهير، بل وأمل الوطن برمته.
نعم؛ الخسارة مرّة في كرة القدم، وفي كل لعبة رياضية، سواءً كانت اللعبة فردية أم جماعية، بيد أن المهتمين بهذه اللعبة من خبراء و رؤساء ومدربين لديهم الأكسير الخاص بتحويل هذه المرارة الى تجارب حلوة يحققون من خلالها نتائج باهرة مستفيدين من نقاط الضعف المتسببة في تلك الخسارة، لذلك يُقال أن أفضل حارس مرمى في العالم هو من تلامس الكرة شباك مرماه، وصدق أحد الخبراء في كرة القدم عندما قال: “اعلموا أن لعبة كرة القدم ليست لعبة بقدرما هي علم ومعرفة”.
وعملية استثمار هذه اللعبة الرياضية المهمة والمثيرة تبدأ من هذه الشريحة المؤسِّسة والنخبة المفكرة التي تقع عليها مسؤولية إحاطة كرة القدم بالقواعد العلمية والمواصفات المهنية البحتة، ليكون اللاعب في المربع الاخضر حاملاً؛ ليس فقط خطة المدرب، وإنما ثقافة كرة القدم المهنية، بما فيها من لعب جماعي، وتعاون، وشعور بالمسؤولية، وشجاعة، وصبر، وهذا من شأنه ان ينعكس فوراً على ثقافة الجمهور فيكون امام أداء مُتقن ومحسوب له ألف حساب، مهما كانت الظروف المحيطة، كأن تكون المباراة في ملعب الخصم، او التعرض لأخطاء التحكيم، او ظروف مناخية، او مختلف اشكال المنغّصات، كلها تذوب بين أقدام اللاعبين الواعين لما يفعلون، والمدركين للمسؤولية التي تقع على عاتقهم، ومن ثمّ ينعكس على ردود الافعال في الشارع وفي الاوساط الاعلامية، ليتعلم الجميع الشعور بالمسؤولية إزاء فريق ولاعبين يبذلون قصارى جهدهم لتقديم الأفضل.
أمامنا فرص قادمة للتألّق والفوز في مباريات قادمة أكثر أهمية، وهي التأهل الى نهائيات كأس العالم المقررة إقامتها في اميركا وكندا مشتركاً في دورتها لعام 2026، نحتاج فيها الى مراجعة شاملة للجانب الثقافي والجانب المهني في وقت واحد، ففي عالم كرة القدم الاحترافية يوجد شيء اسمه “اخلاق الملعب”، وكل من تصرف مسيئ يكون مُدان من الجمهور والمسؤولين المعنيين، فلا يجرؤ أحد على انتهاك اخلاقي إلا القلّة، لأن الهمّ الأكبر النتيجة للفريق، وسمعة البلد، وليس المزاج الشخصي، واذا نجد نجاح كرة القدم في اوربا واميركا اللاتينية وبعض البلاد الاخرى بالعالم فانه يعود الى نجاح الاندماج بين الاحترافية (العلم)، والاخلاقية (الثقافة) في هذه الرياضة الجميلة.