التعبير عن المصيبة يختلف من مجتمع لآخر تبعا للثقافة والبيئة التي نشأ عليها المجتمع، وهذا ما ينعكس بشكل تلقائي على افراد المجتمع، فالسائد في اكثر المجتمعات حاليا هو لبس الأسود للتعبير عن الحزن والأسى.
انشاد الاشعار والتمثّل بها ربما ــ والله اعلم ــ تميز به العرب عن غيرهم في التعبير عن المصيبة، وهذا الامر كان قبل الاسلام ولا يزال الى يومنا هذا، فالعرب مجيء الاسلام لهم اشعار في مختلف الجوانب الحياتية، ولكن يبدو ان قريحة الشعر تنبع بمجيء المآسي والأحزان، وفراق الاحبة، والشعر في العصر الجاهلي كان يحمل الجانب الايجابي والسلبي، فالايجابي منه الحث على الكرم، والنجدة، واصطناع المعروف، وما شابه من القيم والخصال الحميدة، وبالرجوع الى طيات الكتب، وثنايا الصفحات الأدبية نجد ذلك واضحا.
⭐ مَن يتأمل الخطبة الفدكية يجد كيف ان السيدة الزهراء، عليها السلام، اختارت الآيات بدقة وعناية فائقة، بحيث تتناسب كل آية مع سياق حديثها
وفي الجانب الآخر كانت الاشعار الماجنة والمبتذلة، وكانت ايضا اشعار التزّلف الى اصحاب الجاه والثروة ومن له السلطة والحكم، وعندما جاء الرسالة المحمديّة أرادت تغيير الجانب المظلم من الشعر الجاهلي، واستبدال الجانب المبتذل والمرتهن، الى الجانب الانساني القيمي، الذي يرفع الانسان من حضيض الذل، الى موقع العزة والكرامة، وقد أكد القرآن الكريم ذلك في إحدى سوره الطوال (سورة الشعراء) أكد هذه الحقيقة ودعا اليها، قال ــ تعالى ــ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}، ففي الآية الكريمة بيان ان الشعراء يهيمون في كل وادٍ، بمعنى أن قوافيهم تجرهم يمينا وشمال، تبعا للخيال، وطلبا لفتات أصحاب الثروة، إلا أن الآية استثنت الذين آمنوا {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وفيها الآية استثناء، وهو للشعراء الذين يقرنون اشعارهم بالافعال، بالاضافة الى انهم يوجهون قريحتهم الشعرية الى القيم والاخلاق الفاضلة، والقيم الانسانية النبيلة.
- الزهراء والتوجيه الهادف للرثاء
التوجيه الهادف للرثاء والمصيبة لم يكن مغفولا في الاسلام، ونحن إذ نعيش ذكرى استشهاد السيدة الزهراء، عليها السلام، نجد انه لم يُصب أحد كمصيبتها، عليها السلام، التي فقدت أبيها المصطفى، صلى الله عليه وآله، وظهر ذلك جليا في مواقفها، وخصوصا في خطبتها الفدكية التي اوضحت فيها مصيبة رحيل رسول الله، صلى الله عليه وآله.
مع أن خطبة الزهراء، عليها السلام، كانت تنديدا لما لحقها من أبي بكر من ظلامات، سواء كان غصب أرض فدك، او الهجوم على الدار وغيرها، إلا أنها عليها السلام مع لم تغفل القرآن الكريم، وضمّنته الآيات الكريمة في خطبتها، وكيف لا تفعل ذلك، وهي ربيبة الوحي، وما من آية تنزل إلا وتعلمْ تفسيرها وتأويلها وباطنها وظاهرها.
ولمن يتأمل الخطبة الفدكية يجد كيف ان السيدة الزهراء، عليها السلام، اختارت الآيات بدقة وعناية فائقة، بحيث تتناسب كل آية مع سياق حديثها، مما يجعل للآية وقع أكبر في آذان السامعين، فلعلَّ الحاكم يرجع عن غيّه، وعسى أن يتناهى الى بقية السامعين مخالفة أبي بكر لظاهر الآيات القرآنية، ذلك ان مخالفة القرآن لا يجوز عند أي مسلم، ويعد خروجا عن الدين ويوجب لصاحبه العقوبة.
وسكوت الأمة الاسلامية آنذاك ــ وهي أمة القرآن الكريم ــ دليل على عدم الفهم الكامل للقرآن الكريم، بل إن عِظم المصيبة تكمن أن جميع أهل المدينة تلقوا آيات القرآن الكريم من النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، قراءة وتفسيراً، وإذا بهم بين ليلة وضحاها يُلقون كتاب الله وراء ظهورهم ويشترون به ثمنا قليلا، وتركوا القرآن الكريم وعِدله الذي لطالما اوصى بهما النبي الأكرم أمته، “كتاب الله وعترتي أهل بيتي”.
وعلى المنهج ذاته دأب أئمة أهل البيت، عليهم السلام، في التأسيس للثقافة القرآنية، فما من موقف إلا وللآيات الكريمة النصيب الأكبر من ذلك، لما توجه علي عليه السلام إلى صفين انتهى إلى ساباط ثم إلى مدينة بهرسير وإذا رجل من أصحابه يقال له حريز بن سهم من بني ربيعة ينظر إلى آثار كسرى وهو يتمثل بقول ابن يعفر التميمي:
جرت الرياح على مكان ديارهم
فكأنما كانوا على ميعاد
فقال علي عليه السلام أفلا قلت: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين، إن هؤلاء لم يشكروا النعمة فسلبوا دنياهم بالمعصية، إياكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم”.
⭐ سكوت الأمة الاسلامية آنذاك ــ وهي أمة القرآن الكريم ــ دليل على عدم الفهم الكامل للقرآن الكريم، بل إن عِظم المصيبة تكمن أن جميع أهل المدينة تلقوا آيات القرآن الكريم من النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، قراءة وتفسيراً
وكذلك الإمام الحسين، عليه السلام، في طريقه الى كربلاء، فكلما نزل بمنزل، تلا آية من القرآن الكريم، وهو ما يعطي لللآية الحيوية والتفسير الواقعي الذي يريد الإمام ايصاله للآخرين، فمثلا في خروجه من المدينة تلا: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وإذا تتبعنا حياة الائمة المعصومين، عليهم السلام، نجد أن القرآن الكريم حاضرا في حياتهم بشكل واضح وجلي، في حين أن غالبية الناس بين أمرين، فمنهم لازال متمسكا بالاشعار الجاهلية المبتذلة، والبعض الآخر استورد ثقافة دخلية على الثقافة الاسلامية، وجعلها بديلا عن المنهج القرآني.
فكم هو حريٌ بنا أن يكون للقرآن الكريم محور حياتنا، خصوصا في زمن نعاني فيه من أزمات أخلاقية، وعقائدية، وفكرية، وثقافية، علاجها الوحيد هو اللجوء الى القرآن الكريم، قراءة وتدبرا وتطبيقا، بهذا الأمر يمكن توجيه الأدب لمعاجلة القضايا المختلفة، خصوصا وان الادب المبتذل انتشر بشكل كبير وبمختلف الاشكال.