قال الإمام زين العابدين، عليه السلام: “إِلهِي بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ تُبْ عَلَيَّ، وَبِحِلْمِكَ عَنِّي اعْفُ عَنِّي، وَبِعلْمِكَ بِي إرْفَقْ بِي”.
العفو واللين والصفح قيم اساسية تعبّر عن القدرة ولا تعبر عن الضعف، فحينما يعفو الانسان عن غيره فإنه تعبير عن قدرته، “وهل يظلم إلا الضعيف” لان القوي لا يحتاج الى الظلم، وكذلك القادر يعفو لانه في غنى عن القصاص.
هذه أخلاقيات يحتاج الانسان ان يمرّن نفسه عليها، وفي أقل الأمور هي تعبير عن قدرة داخلية، اي قدرة على النفس، لأن النفس قد يتخللها الغرور وتأخذها العزة بالأثم فتنتقم وتتجاوز حدودها.
الله ــ سبحانه وتعالى ــ قادر ولانه كذلك يعفو، ولذلك نطلب منه العفو والتوبة وان يعاملنا باللين.
- “إِلهِي بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ تُبْ عَلَيَّ”
مهما ارتكب الانسان من ذنب يجب ان لا يدخله اليأس، لان الشيطان يوسوس للمذنب: (ان الله لن يقبلك ولستَ من أهل المساجد)، ولهذا ترى بعض الشباب يعزفون عن المسجد، والسبب ليس لديهم عُلقة برحمة الله، فيقل في نفسه: (لا يناسب ان أكون في المسجد لان وضعي ينافي ذلك) وهذه هي وساوس الشيطان التي تحول بين الانسان والعودة الى ربه وخالقه.
في المقابل هناك دعوة إلهية للإنسان؛ ان عُد الى الله ليغفر الله، ويدخلك في حياض رحمته وعفوه، فبمجرد ارتكاب الانسان لذنب ما، لا يعني أن كل شيء انتهى، بل هناك مجال للعودة الى الله.
الله ــ تعالى ــ له القدرة ان يفضح المذنِب أمام الاشهاد، و قادر على إنزال العقوبة عليه في الدنيا قبل الآخرة، ولله القدرة ايضا ان يسلب الانسان النِعم التي عصاه بها؛ نعمة الصحة، والقدرة، والسمعة، والعلم وما اشبه.
⭐ بمجرد ارتكاب الانسان لذنب ما، لا يعني أن كل شيء انتهى، بل هناك مجال للعودة الى الله
الكثير من الناس يستخدم النعم التي وهبها الله لهم في الظلم، والاعتداء على الآخرين، وتعدّي الحدود الالهية، ولذا فإن الانسان بحاجة الى الرجوع الى الله، لئلا يسلبه النعم التي بها قوام حياته، فلو أن إنسانا فقد نعمة العافية فكيف ستكون حياته؟
التوبة الى الله يعني الرجوع الى القيم الإلهية من اجل بقاء النعم الالهية، فمعصية الله هو تمهيد لسلب النعم الإلهية، فالله ــ تعالى ــ يعطي الانسان العلم حتى يعلّم به الناس ليعرفوا الله ويعبدوه، ويعطي المال كي يكفّ الفرد نفسه عن الحرام ويكون مستقلا بعيدا عن إذلال الآخرين، ويصرف المال في سبيل الله، وحينما يعطي الله سمعةً حسنةً فجيب استثمارها في تحبيب الناس الى الدِين، وكذا الأمر في بقية النعم الالهية التي يجب تكريسها لرضى الله ومحبته، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
نحن بحاجة الارتباط الايجابي بالقدرة الالهية وذلك بالتعلق بقوة وإرادته، إذ تُغرس ــ على إثرها ــ شجرة الخوف من الباري في أنفسنا، ومنها ايضا تُغرس شجرة الأمل، فالعاقل حينما يتفكّر في القدرة الالهية يرى النار: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وحين رأوا قدرة الخالق تعلّقوا به، وطلبوا منه العتق من النار، وانطلقوا في رحاب الحياة.
- “وَبِحِلْمِكَ عَنِّي اعْفُ عَنِّي”
حِلم الله ــ تعالى ــ هو بمثابة الوقود للارتباط به، وليس الغفلة عن قيم الله، ولذا على الانسان المؤمن ان يستثمر الحلم الالهي للتطلع اكثر مما يطلبه بالعفو فقط، وهو ان ترتفع العقوبة الالهية التي تركها الذنب، بحيث تكون صحيفة المؤمن عبارة عن صفحة بيضاء.
⭐ الكثير من الناس يستخدم النعم التي وهبها الله لهم في الظلم، والاعتداء على الآخرين، وتعدّي الحدود الالهية
وذلك لن يكون إلا أن يتخلق المؤمن بأخلاق الله، في العفو عن الناس، والصفح عنهم، وتلك الاخلاق هي التي أدب الله بها بينه الاكرم، صلى الله عليه وآله، وهو القائل: “أدبني رب فأحسن تأديبي”، قال ــ تعالى ــ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فرسول الله تخلّق بأخلاق الله، ونحن بحاجة أن نتأسى برسول الله في أخلاق؛ العفو، والشفقة، واللين، “ما وضع الرفق على شيء إلا زانه”.
ومع سوء أخلاق الكثير وتعجرفهم إلا ان الباري لم يمنع نعمه عليهم، فكيف بالمؤمن المرتبط بالله.
- “وَبِعلْمِكَ بِي إرْفَقْ بِي”
الله ــ تعالى ــ يعلم ان الانسان المؤمن حين عصاه لم يعصه إلا بسبب ضعف أصابه، “الهي قلبي محجوب وعقلي مغلوب وهواي غالب”. وبهذه الكلمة الرائعة هو طلب من الباري ــ عز وجل ــ لان يطعينا القدرة للتغلب على اهوائنا وشهواتنا.
حين يتعلق الانسان المؤمن برفق الله وحلمه يكسب الرضوان الالهي بحيث تتغير شخصيته الى شيء آخر خلافا عما كان قبل الذنب، والشخصية التي تنال الحلم الالهي تحلق في آفاق العلم والمعرفة، ولذا يجب ان نتعامل مع القيم الإلهية تعاملا ايجابيا وهذا يتطلب ان نتخلق بأخلاق الله؛ الحلم، والعفو وما اشبه.
- (مقتبس من محاضرة لآية الله الشهيد نمر باقر النمر)