يُنصَح في عالم اليوم أن يتجنب الآباء التدخل المباشر في قدرات ونشاطات أبناءهم، وأن لا يُظهِر هؤلاء الآباء رقابتهم المباشرة للأبناء حتى لا يتم تقييد حريتهم في العمل والنشاط الذي يرغبون فيه، وقد بيّنت العديد من التجارب العملية أن الأب إذا هيمن على تصرفات وسلوكيات وقدرات ابنه، فإنه سوف يحرمه من البناء السليم للشخصية وإمكاناتها ومزاياها.
فهل هذه النصيحة تمنع الأب من التدخل الكلي في حياة أولاده؟ أم ما هو الحد الصحيح واللازم لهذا النوع من التدخل؟
يجيب أهل المعرفة في هذا المجال، بأن التدخل الأبوي في بناء شخصية الابن، و في توجيه ودعم قدراته المختلفة أمر لا غبار عليه، بل هو مطلوب من باب نقل الخبرات من الآباء للأبناء.
فليس هناك أي مانع من أن يتدخل الأب في توجيه سلوكيات الابن، وفي ترصين أعماله المختلفة، وفي مواصلة الرقابة غير المباشرة عليه، وهذا النوع من الرقابة لا يمكن أن يعد تدخلا في حياة الابن ولا تحجيما لقدراته، وإنما هو نوع من الدعم غير المباشر لهذه القدرات، حتى يضمن الأب أن ابنه يسير في الاتجاه الصحيح، ولا يمكن التخلي عن الابن والابتعاد عنه سلوكياته ونشاطاته بحجة عدم التدخل في حياته.
الأمر يحتاج إلى نوع من التوازن الصحيح والدقيق في هذه القضية، فالمطلوب من الآباء أن يراقبوا قدرات ونشاطات أبناءهم، ومن خلال هذه المراقبة غير المحسوسة يطمئن الأب إلى أنه يقوم بدوره الصحيح في تطوير قدرات ابنه، ولا يبتعد تماما عن هذا الدور، وفي نفس الوقت لا يكون رقيبا ثقيلا على الابن، فهذه القضية هي نوع من التعامل المتوازن مع سلوكيات وتوجهات الأبناء.
⭐ هناك فوائد كبيرة للاعتماد الذاتي بالنسبة للأبناء، ولكن هذا لا يعني أن نترك الأبناء يواجهون الحياة من دون مساعدة أو توجيه أو تذليل للمصاعب، ففي نهاية المطاف ومهما كان الابن قويا وذكيا فإنه يحتاج إلى الأب في توضيح الكثير من جوانب الحياة
حتى في الجانب التوجيهي اللفظي، لابد أن يعرف الأب ما هي المفردات التي تساعد الابن على الاستفادة من نصائح وتوجيهات الأب العملية أو الفكرية أو الدينية أو الأخلاقية وسواها، فالألفاظ ونوعيتها ومعانيها وطريقة توصيلها من الآباء الى الأبناء لها دور كبير في مساعدتهم على تطوير مهاراتهم ونشاطاتهم، و أهم أسلوب أبوي في هذا المجال؛ التوجيه اللفظي غير العنيف والابتعاد عن النبرة الحادة والصراخ العالي في التوجيه.
يقول أحد الشباب الذين نجحوا في تكوين مشروعهم العملي الشخصي، إن والده كان سببا في نجاحه، وأن هدوء الأب وصوته الحنون الواضح، ومتابعته اليومية غير المباشرة كانت وراء كل ما حققه الابن من نجاح عملي، ومن بناء شخصية متوازنة واثقة، على العكس من شاب آخر ذكر بأن الصراخ العالي لأبيه وتوجيهاته بخشونة واضحة كانت سببا في التلكّؤ الذي عانى منه طيلة حياته.
هذه المقارنة بين شابيْن، أحدهما استطاع أن يشق طريقه الجيد في الحياة بمساعدة أبيه، والثاني كان أبوه سببا في تأخر مشروعه الفردي العملي وحتى في بناء شخصية متوازنة، كان الفارق بين الاثنين، هو التعامل المتباين للأبوين مع الابنين، فالأب الذي تعامل مع الابن بعيدا عن الهيمنة والصراخ والجعجعة الفارغة، قتل في ابنه روح الاندفاع والإبداع، وكان سببا في تلكّؤ المشروع الفردي لابنه.
أما الابن الآخر فقد كان أبوه السبب الأول في نجاح مشروعه، وفي بناء شخصيته بشكل واثق ومتوازن، لأن الأب عرف كيف يساعد ابنه وكيف يراقبه من بعيد، وكيف ينقل له خبرته بهدوء، وكيف يضخ له النصائح والتوجيهات بأسلوب محبب خال من أي نوع من العنف أو الصراخ، وهذا يدل بأن أسلوب توصيل الخبرات والمعلومات من الآباء إلى الأبناء مهم جدا، ويتعلق به نجاح أو إخفاق الأبناء.
نعم؛ هناك فوائد كبيرة للاعتماد الذاتي بالنسبة للأبناء، ولكن هذا لا يعني أن نترك الأبناء يواجهون الحياة من دون مساعدة أو توجيه أو تذليل للمصاعب، ففي نهاية المطاف ومهما كان الابن قويا وذكيا فإنه يحتاج إلى الأب في توضيح الكثير من جوانب الحياة الغامضة، بالطبع ليس إلى الدرجة التي تجعل الابن يعتمد بشكل كلي على الأب، وإنما نوع من المساعدة المتوازنة التي تساهم في مؤازرة الابن لتحقيق مشاريعه بصورة ناجحة.
إذن يمكن للأب أن يتدخل في بناء حياة ابنه، ولكن هناك شروط مهمة أولها أن لا يسلب هذا التدخل شخصية الابن ولا يهيمن عليها ولا يتحكم بها، بل نوع من المعاضدة السليمة التي تدعم الابن ولا تسلب منه ميزة الاعتماد الذاتي المهمة، فالإنسان لا يمكن أن يحقق النجاح ما لم يكن الاعتماد الذاتي للنجاح ركيزته الأولى والأهم.