كلما تسارعت الابتكارات في تقنيات الاتصال، وعالم الانترنت والحاسوب، كلما تسارع ضربان قلب الوالدين في الوقت الحاضر قلقاً على ابنائهم وهم في مرحلة المراهقة، مُنحنية ظهورهم على الهواتف المحمولة او الاجهزة اللوحية (تابلويد)، منهمكين في متابعة الالعاب الالكترونية، او التقلّب من هذا التطبيق الى آخر لمشاهدة المثير والجديد، والذي ربما لا يتناسب مع هذه الاعمار وما يحملونه من مشاعر وذهنية يفترض أنها تتفرغ لما يطورها وينميها، لا أن يزيدها توتراً وقلقاً، مع هدر مريع للوقت، وخسارة أكثر فداحة في البصر والعظام والاعصاب وغيرها كثير.
لذا نلاحظ حالة من الحراك المضطرب لدى شريحة من الوالدين الحريصين –وليس لدينا نسبة محددة منهم في المجتمع حالياً- على مستقبل أبنائهم، وعلى سلامتهم الذهنية والنفسية، فيكون التعامل احياناً مشوباً بالعنف والتسرّع مما يعطي نتائج عكسية، كأن تصدر قرارات بالمنع، او الحرمان، او عقوبات اخرى تخلق حالة من السخط الداخلي، ومن ثم التفكير بالتخلص من هذه القرارات، او الالتفاف عليها، مما يعني خلق مشكلة جديدة لا تقل خطورة عما نحن فيه، الامر الذي يدعونا الى التفكير بجدّ في أمر المسايرة الذكية مع اتخاذ الاجراءات الحكيمة ذات النتائج الطيبة.
العلماء والمهتمون بالشأن التربوي بحثوا الأمر متفضلين، فكتبوا وتحدثوا طويلاً عن أفضل السبل الى تربية صالحة يتفاعل معها الابناء؛ بنيناً وبناتاً، ويخرجوا بحصيلة تحقق لهم السعادة والنجاح، وهنا نقتطف ثلاثة اساليب يكمل أحدهما الآخر:
- الأول: دعه يفكّر
في الحياة تجارب وعِبر يفهمها الكبار جيداً لانهم خاضوها قبل ان يصلوا الى مرحلة الكِبر ويصبحوا آباء وأمهات، يتحملون مسؤولية التربية والمعيشة، بيد أن كل هذا ربما يكون غير مفهوم لمن هو في سن الثانية عشر الى الخامسة عشر –مثلاً- وهي مرحلة المراهقة، والمعروفة بحساسيتها الشديدة، فهم يسمعون التحذيرات والحكايات والصدمات ومختلف اشكال التجارب من الكبار، وهم صامتون ليس لهم رد، او طريقة للتفاعل، فهم –بكل بساطة- صغار أمام كبار، لذا نحتاج “وعي الآباء لأهمية تربية أولادهم على خلاصة التجارب، ومن ثمّ تركهم باتجاه التطبيق، او الاستفادة من تلك التجارب، أما الدخول في تفاصيل حياة الأولاد، فهذه طريقة غير صحيحة، لأنها تسلب منهم قابلية التفكير والاعتماد الايجابي على الذات”.
- ثانياً: ثقوا بأبنائكم
ربما تجتمع اسباب عديدة تفقد الأبوين الثقة بقدرة ابنائهم على فعل الصحيح، من أصغر شيء في البيت، او الى أكبر مسألة او حركة في كلمة تقال، او عمل معين، لذا نجد الظاهرة المنتشرة في معظم عوائلنا؛ التعامل مع الابناء المتخطين مرحلة الطفولة، على أنهم صغار يَحبُون (يزحفون) على الأرض! لابد من رعايتهم من شيء يضعونه في أفواههم، او يكسرون شيء ما، او يضعون أيديهم على أشياء خطيرة وما الى ذلك.
وقد أجمع علماء التربية على أن الطفل الصغير لا يلتذّ بوقوفه لأول مرة على الأرض إلا بعد أن يسقط مرات عديدة، وهذه سنّة الحياة، الامر الذي يجدر بالوالدين رسم بداية الطريق الصحيح لهم، بأن يقولوا لهم مثلاً: اختر أنت الصديق الذي يتناسب مع أخلاقك وتربيتك، وما تعلمت من الآداب، وفي هذا فائدة كبيرة جداً للأبناء، بأن يتعلموا معنى “المسؤولية” عندما يكتشفوا خطأ اختيارهم لهذا الصديق او تلك الصديقة، فانهم سرعان ما يتخذوا القرار السريع بتصحيح الخطأ واختيار الأحسن، مما يعني اكتساب تجربة ثمينة في جانب من الحياة.
⭐ أجمع علماء التربية على أن الطفل الصغير لا يلتذّ بوقوفه لأول مرة على الأرض إلا بعد أن يسقط مرات عديدة، وهذه سنّة الحياة، الامر الذي يجدر بالوالدين رسم بداية الطريق الصحيح لهم، يبقى على الابناء بذل جهدهم للمضي في هذا الطريق
ولكن! أرى في هذه النقطة تحديداً، خيطاً رفيعاً وخطيراً للغاية بين هذه الثقة، وبين زرع الغرور والأوهام في نفس الأبناء على أنهم قادرون على فعل كل شيء، وأنهم الأفضل والأقوى، ولا عليهم بغيرهم من أصدقاء الدراسة او المحلّة، عليهم بأنفسهم فقط! وهذا ما نلاحظه كثيراً هذه الايام، فالبنت تختلي بنفسها وتغوص بين الكتب المدرسية، مكرّسة كل جهدها لأن تكون المتفوقة على الأخريات، ولا تنظر بعين المساعدة والتفاعل مع الصديقات ممن يطلبن منها توضيحاً او مساعدة قبل الامتحان، وفي موارد اخرى، أما الابن، فنراه خلف مقود السيارة –مثلاً لا حصراً- وهو لم يبلغ الخامسة عشر من عمره، يقود السيارة الى جانب والدته المفتخرة به وبرجولته المزعومة التي ربما تخلق له ولأسرتها المشاكل بحادث سير مفاجئ، او نراه يجرب شخصيته في الدراجة النارية وبسرعة فائقة في الشوارع، او في مشاهد أخرى يجدها القارئ أمامه يومياً.
- ثالثاً: القرآن الكريم
ما أروع كتاب الله المجيد في خطابه التربوي العظيم والبناء لحضارة انسانية راقية، ومن أجمل صور هذا الخطاب ما نقرأه في سورة لقمان؛ ذلك الحكيم بشهادة روايات أهل البيت، عليهم السلام، فهو بدأ بالموعظة وليس الأمر لأبنه { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فقد كان “اسلوبه قائماً على الموعظة، حيث يعمد الى تفهيم الطرف المقابل بأن من مصلحته استماع واتباع الموعظة لكي يتقبلها برحابة صدر”.
وهنا التفاتة تربوية راقية من القرآن الكريم في إنشاء الارضية العقائدية الصلبة قبل إصدار الأوامر والنواهي للابناء، فكانت البداية بتوحيد الله {لا تُشرِكْ بِالله}، ثم يبين؛ ليس لابنه فقط، وإنما للأولاد على مر الزمن، منزلة الأم عند الله –تعالى- وما تقدمه تضحيات وجهود كبيرة، {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ثم يبين –تعالى- العلاقة المطلوبة بين الابناء والوالدين وفق المبادئ والقيم، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}، ثم يأتي القرآن الى قاعدة أساس اخرى في التشريع والقوانين الإلهية، وهي؛ الحساب في الآخرة، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ}، ومن ثمّ يواصل القرآن سرد وصايا لقمان لابنه في خطوط تفصيلية تكون ثابتة على تلك القاعدة الرصينة، حيث يأمره بالصلاة، وينصحه بالسلوك الحسن، والتزام الآداب الرفيعة بين الناس.
“إن السياق القرآني في قصة لقمان وحديثه لابنه عن التقوى والورع كخطوط عامة للمعتقدات، تاركاً الى فطنة وذكاء ومساعي الابن في اكتشاف التفاصيل لتلك الخطوط، ومن ثم الالتزام بها”، وهذا لن يكون إلا بتحلّي الأبوين بدرجة من الذكاء تجعل الابناء الصغار يشعرون بأن هناك من يهتم بهم وبمشاعرهم وطموحاتهم، ويحترم افكارهم، كما يحتاج الأمر الى قدر غير قليل من الصبر والتأنّي لأن القضية ليست بالسهلة، فنحن نصبر ساعات وأيام على كثير من الامور على أمل الحصول عليها، وهذه قضية تربية ابناء وجيل جديد، يحدد مصير الأسرة والمجتمع، بل والامة كلها، فهي تستحق العناء حقاً.
اعطني ولداً او فتاة بتربية راقية وأدب رفيع، أعطك مجتمع وشعب متحضر ومتقدم.
المصدر: معالم التربية الاسلامية، لسماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي