مَن يصنع مَن؟
هل القدر يصنع الانسان؟
أم أنّ الانسان يصنع القدر؟
والجواب: لا هذا ولا ذلك، بل أمر بين الامرين؛ فليس القدر كله بيد الانسان، فما أكثر الامور التي يجد الانسان نفسه عاجزاً عن تغييرها، ولكن ليس الانسان مسلوب الارادة والحرية بالكامل، فربما أُوتي أحدنا القوة في السلطان، والكثرة في المال، والوفرة في العلم، ومع ذلك يجد نفسه عاجزاً عن تحقيق آماله وتطلعاته، فالقدر ليس كله بيدك، ولكنك لست كائنا يحركك القدر من دون إرادة منك.
فهنالك أمور هي شأن إلهي بحت مثل: متى تولد، وأين تولد، ومتى تموت، وأين تموت؟ وكيف تولد وتموت! كل ذلك شأن إلهي فـ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.
وهنالك أمور قد جعلها الله ـ تعالى ـ بيد الانسان، فله فيها الحرية والاختيار، ولذلك فإن الانسان يعيش ضمن هذه المعادلة الدقيقة التي اطلق عليها أئمتنا، عليهم السلام، اسم”أمر بين الأمرين” فيبني الانسان مصيره ومستقبله بنجاح، إذا استطاع استيعاب المعادلة.
إن كل امور الكون بيد الله ـ عزوجل ـ وهو المهيمن على كل شيء، لكنه ـ تعالى ـ أعطانا مساحة من التصرّف والحرية، ولذلك فالذين يدّعون أن القدر ليس في صالحهم، وانهم ولدوا في بيئات لا تساعدهم، او ضمن ظروف صعبة، كل اولئك يخدعون انفسهم، فالانسان قادر على فعل شيء في حياته، ولو كان علامة صغيرة في طريق الخير والصلاح، فهو في كل الاحوال يستطيع أن يصنع بعض ما يبتغيه، ويحقق بعض طموحاته، ويتمتع ببعض المباهج التي يرغب في التمتع بها.
⭐ هنالك أمور قد جعلها الله ـ تعالى ـ بيد الانسان، فله فيها الحرية والاختيار، ولذلك فإن الانسان يعيش ضمن هذه المعادلة الدقيقة التي اطلق عليها أئمتنا، عليهم السلام، اسم”أمر بين الأمرين”
فليس كل شيء لك وفي نفس الوقت ليس كل شيء حرام عليك، بعض الحق لك، وبعض الحق عليك، بعض العطاء واجبك، وبعض العطاء حقك، فمن حقك ان ترتاح ليس كل الوقت، بل بعضه، ومن حقك ان تتمتع ببعض اللذات وليس بكلها، ومن حقك ان تحصل على بعض المال وليس كله، ومن حقك ان تحصل على بعض السلطان وليس كله، وهكذا فإن “الكل” ليس لك، ولكن “الكل” ليس محرما عليك.
إن الحياة أكبر منّا جميعا، فلا يمكن أن نسيطر عليها في كل نواحيها، بأن يحتكر شخص واحد كل شيء لنفسه، ونحن أكبر من تسحقنا الحياة، لكل منا دوره الذي لابد له أن يؤديه، وقدراته التي لابد ان يحققها، وحقوقه التي من حقه ان يحصل عليها في هذه الحياة.
أمّا كم هي حقوقه، فهي ما يحصل عليه بالجهد والنشاط، ومن دون الاعتداء على حقوق الآخرين، وليست حقوقه هي ما يتخيلها لنفسه على حساب غيره، كما ليست لذّاته كل ما يتصورها لنفسه، وليست قدراته كل ما يرغب فيها، وهكذا.
فمن يرغب ببناء شخصية قوية، فإن عليه ان يعمل بجد ونشاط ضمن هذه المعادلة، ويسعى بكل مثابرة من أجل صناعة قَدَره، فلا يستسلم للظروف المحيطة به، متذرعا بأن الظروف ليست في صالحه، بل عليه أن يتحدى المشاكل ويتجاوز الصعاب وينطلق في الحياة.
حُكم على أحد المجاهدين بالسجن ظلما لمدة 15 عاما، وحينما عاد من المحكمة وجلس في زنزاته الصغيرة بدأ يفكر في حياته المستقبلة، وخلال الخمسة عشرا عاما القادمة، ماذا سيفعل وكيف سيقضيها؟ وهل انتهت حياته هنا؟
سرح في تفكيرٍ عميق استغرق منه ساعات طويلة، وفي نهاية المطاف قال بصوت عالٍ: لن تكسروا إرادتي.. ولن تسلبوا مني حياتي، ثم اتخذ قراره الذي غيّر حياته الى الابد، لقد قرر ان يصنع قدره ومصيره بنفسه، ولا يسمح للسجان بصناعة مصيره.
⭐ كُن أنت المبادر لصياغة شخصيتك وصناعة قدرك، ولا تجلس على قارعة الزمن متفرجا ومنتظرا للمعجرة أن تغير شخصيتك
في الايام التالية كان كثير التفكير فيما يمكن أن يقوم به، خاصة وان الخيارات في السجن محدودة، الى ان سمع أحد السجناء الاجانب يتحدث بلغة غريبة لم يسمعها من قبل، فانقدحت في ذهنه فكرة، سرعان ما بدأ في تنفيذها، لقد قرر ان يتعلم لغات جديدة، مستفيدا ممن يتقنها من السجناء.
مضت الايام والاعوام، وهو يتعلم بكل جد ونشاط، وكلما اتقن لغة تطلعت نفسه الى تعلم لغة أخرى، وهكذا كان حتى اتقن خمس لغات وهو داخل السجن، لقد اتقن الانكليزية، والفارسية، والاسبانية، والهندية، والروسية.
يقول: “حينما اطلق سراحي بعد 15 عاماً خرجت الى العالم الخارجي ولديَّ حصيلة كبيرة من العلم، واستطعت أن اوظف ما تعلمته في السجن من أجل صناعة مستقلبي في الخارج، فقد اصبحت مترجماً ومعلماً للغات، واصبحتْ هذه اللغات تدر عليَّ من الرزق ما يفوق المتوقع، وكل ذلك لأنني لم اسمح للسجان الظالم بصناعة مصيري، وإنما قررت ان اصنع قدري ومصيري بيدي بعد التوكل على الله ـ تعالى ـ”.
كُن أنت المبادر لصياغة شخصيتك وصناعة قدرك، ولا تجلس على قارعة الزمن متفرجا ومنتظرا للمعجرة أن تغير شخصيتك.
قال عزّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.