بالنظر الى طبيعة المجتمع العربي قبل بعثة النبي الأكرم محمد، صلى الله عليه واله، نجد انه مجتمع غليظ تسود فيه قوة التسلط على قوة المنطق والتفاهم، وكذلك تسود فيه قوة الغِنى على الفقر، وما الى ذلك، مما قد لا نجد مجالاً لذكره.
و نظراً الى غلبة هاتين القوتين في ذلك المجتمع، فمن المؤكد سيعطينا تصورا واضحا عما يندرج تحتهما؛ وهو الآخر ما يسود العلاقات بين أفراده، إلا ان هذا المجتمع شهد تغييراً وانقلاباً جذرياً في الموازين وطبيعة العلاقات الاجتماعية فيه بعد بعثة النبي الأكرم محمد، صلى الله عليه واله، بحيث أصبح مجتمعاً مثالياً، وبفارق كبير، بين حالته قبل وبعد مجيء هذه الشخصية العظيمة، بل يمكن ان نقول؛ بينه وبين كل المجتمعات التي كانت معاصرة لهذه الدعوة الجديدة التي برزت ملامحها وظهرت تعبيراتها من خلال المعاملات المختلفة التي تعامل بها بناء ذلك المجتمع المسلم الذي ذكره الله سبحانه في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة آل عمران، الآية:110
ولعله قد يتبادر الى أذهاننا سؤالاً مهماً وهو كيف استطاع النبي الأكرم محمد، صلى الله عليه واله، أن ينتشل هذا المجتمع من واقع الى آخر؟ بل يمكن أن نقول: الى مجتمع حضاري ناجح له شخصيته وهويته التي تميزه عن غيره بشكل لا يختلف بالحكم عليه كل ذي رأي منصف.
⭐ حقق رسول الله، صلى الله عليه واله، ناجحاً كبيراً في تربية المجتمع، عندما لم يركز على ثقافة الفرد فقط، أي؛ لم يركز في تربيته على مستوى الأفراد، بل كانت تربيته أوسع من ذلك
و الإجابة عن هذا التساؤل قد يحتاج الى وصف كثير ودقيق، إلا أننا قد نضع أمامنا ما يمكن ان يكون جوابا عن ذلك، بشكل بسيط نابع من حدود أفكارنا بالنسبة الى ذلك النور المحمدي الإلهي الأصيل، وهو انه في حياتنا اليومية لا نختلف في ان الأب عندما يريد تربية الطفل تربية صحيحة أو تربية موجهة، يحتاج الى الهيمنة على ذلك الطفل، وهي هيمنة بالحب، وبالثقة، و بترسيخ وغرس المعتقدات المفترضة بشخصيته، وبدون تلك الهيمنة فهو يكون بذلك مجرد تلميذ عند الأب ينقل منه المعارف، لا أكثر من هذا ولا أقل، فالتربية هيمنة بمحددات مقصودة ومغروسة بداخل شخصية الفرد، ومن ذلك نجد ان بعض الأفراد قد يسيطر عليهم المجتمع أكثر مما قد يسيطر عليهم الآباء والأمهات، فمثل هولاء قد هيمن عليهم المجتمع بمفترضاته وغلب على تربية الأهل الذين فقدوا السيطرة على ابنائهم، فيمكن أن نقول المجتمع هو الأب لهؤلاء الأفراد.
وهذا ما قد جعل رسول الله، صلى الله عليه واله، يحقق ناجحا في تربية المجتمع، فهو لم يركز على ثقافة الفرد فقط ،أي؛ لم يركز في تربيته على مستوى الأفراد، بل كانت تربيته أوسع من ذلك، فهو يضع المحددات المطلوبة والمقصودة للمجتمع، أيضاً؛ بمعنى قد هيمن على العلاقات الاجتماعية، فقد وقف رسول الله، صلى الله عليه واله، يخطط لهذا المجتمع، ويرسم له، ويبني كل العلاقات في داخل هذا الاطار الاجتماعي؛ علاقة الإنسان مع نفسه، وعلاقته مع ربه، وعلاقته مع عائلته، وعلاقته مع بقية أبناء مجتمعه، وعلاقاته في مختلف المجالات ومختلف الحقول الاجتماعية والشخصية، كان، صلى الله عليه وآله، هو الذي يخطط. و إذاً؛ فكل هذه الأمور صارت تحت هيمنته، ولما صارت تحت هيمنته استكمل هنا الشرط الأساسي في التربية الناجحة.
ومن هذه التجربة العظيمة التي قدمها نبي الأمة في تربية المجتمع، و استمر في مدّ خطها نحو المستقبل، ثم حافظ عليها الأئمة الأطهار، عليهم السلام، فلابد ان تكون درساً نستلهم منه عوامل النجاح في بناء شخصية الإنسان وفق التجربة الإسلامية، وان نكون على قدر المسؤولية في تقديم نماذج هذا الفكر بطرق سهلة ويسيرة امام كل مربي في البيت والمدرسة والمجتمع.
- المصادر
الصدر، السيد محمد باقر، أئمة أهل البيت ودروهم في تحصين الرسالة الإسلامية،ط4، مطبعة شريعة قم، 1435 ه.