- التاريخ لا يرحم
مقولة نتناقلها جميعاً، وسمعتُها منذ الصِّغر، ولكن لم استوعبها جيداً إلا بعد أن كبرتُ، وقرأتُ، وبحثتُ في التاريخ، فعرفتُ مغزى ومعنى تلك الكلمة الرائعة التي اختصرت الحديث عن روح التاريخ، وفلسفته، وحكمه.
فالتاريخ سيف صارم، يقطع الأعذار، والتسويفات، والتسويلات، لكل منافق أفاك، أو كاذب دجال أو طاغية جبار، مجرم مستكبر، لأن التاريخ ينصف المظلوم من ظالمه، ويرحم المسكين ويلعن الطاغية المستكبر.
التاريخ يقول مرَّ الحقِّ، مهما كان مراً، وينطق بالصدق مهما كان قوله صعباً، أو متعذراً في حينه، فينطق بلسان الحق، “والحق ينطق منصفاً وعنيداً”.
التاريخ لا يرحم الطغاة، والمستبدين، الحُكام، والمستكبرين، لأنهم لم يرحموا خلق الله، ولم يخافوا ربهم الرحمن الرحيم، فكيف يرحمهم التاريخ بعد أن شوَّهوا صورته، وسودوا صفحاته بجرائمهم، فملؤوه ضجيجاً من البسطاء، وعجيجاً من الفقراء والمساكين والمظلومين؟
فهم لم يرحموا حتى أنفسهم الضعيفة، وأجسامهم النحيفة، التي لا طاقة لها لتحمل أَلَمِ إبرة دواء، ولا لسع نسمات الشتاء الباردة، ولا لفح هجير شمس الصيف الساخنة، فكيف لهم أن يتحملوا ناراً سجَّرها الجبار لغضبه وسخطه وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض، والجبال لا تستطيع أن تتحمل ما يتحمل الرجال.
⭐ عظمة مسلم بن عقيل تنبع من عمِّه الإمام علي، عليه السلام، وتتفرع عند الإمام الحسن والحسين، وآتت أكلها في نهضة كربلاء الخالدة
التاريخ لسان حال الماضي الناطق في الحاضر بمرِّ الحق، ولسان الصدق، مهما كان من أبواق لطغاة الماضي المدافعين عن المجرمين، فهؤلاء أبواق شيطانية سخَّروا أنفسهم للدفاع عن غيرهم بالباطل فهم كمَنْ باع آخرته بدنيا غيره، فصار تحت سيف التاريخ القاطع، يُشار إليه بالبنان والبيان أنه من أبواق الشيطان.
- تاريخ الإسلام والمسلمين
وكم في تاريخنا الإسلامي من كوارث ومآسي، وجرائم يندى لها جبين التاريخ البشري عندما تُذكر، ولا سيما جرائم الحُكام الظلام، والسُلطات القرشية الظالمة، ولكن تبقى مأساة كربلاء الخالدة.
وجريمة عاشوراء المتجددة الدائمة هي أم المآسي، والجرائم، التي لا شبيه لها ولا نظير، لا من حيث الزمان أو المكان، بل من حيث الأشخاص الذين خاضوها فكانوا شرف الزمان والمكان، بل حجة الخالق على خلقه، وسبب وعلَّة الوجود والإيجاد.
فالجريمة جريمة هذا صحيح..
والمجرم القاتل هو المجرم كما يقال..
ولكن ليس كل مقتول نبي، أو وصي، أو ولي..
فهناك قتلى ليس لهم عند الله وزن جناح بعوضة كيزيد وابن زياد، وصدام وأشباههم وأمثالهم ونظائرهم من الجفاة الغلاظ المجرمين القتلة.
وهناك قتيل تبكي عليه السماء وتنكسف له الشمس، كأمير المؤمنين وأبنائه الطاهرين، عليهم السلام.
وهناك قتيل يبكي عليه كل شيء من الجنان وحورها وقصورها، وحتى البحار بحيتانها وأسماكها وما فيها، كالحسين بن علي، عليه السلام، الذي اقشعرت له أظلة العرش، ألسنا نخاطبه في زيارته ونقول: “بأبي أنتَ وأمي ونفسي يا أبا عبد الله أشهد لقد اقشعرت لدمائكم أظلة العرش مع أظلة الخلآئق وبكتكم السماء والأرض وسكان الجنان والبر والبحر”
فليس كالحسين أحد من الخلق في عصره، فهو الإمام المفترض الطاعة على الأمة، وحجة الله على الخلق، وهو سيد شباب أهل الجنة، وهو إمام قام أو قعد، كما قال جدُّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، له ولأخيه السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى، عليه السلام.
- دوحة العشق الحسيني
في مسيرة وسيرة كربلاء حيث الحديث عن الحب الذي لا يُقاس، ولا يعرفه معظم الناس، بل هو العشق المنير، الذي يُنير الروح ويُحيي الضمير، إنه عشق الحق بأجلى صوره، وأنقى تجلياته، وأرقى مقاماته في هذه الدنيا، عشق الإمام، والحجة، والمثال، والقدوة.
الإمام الحسين، عليه السلام خرج من مكة المكرمة في يوم التروية، ليروي التاريخ، والحق، والقيمة، والفضيلة، والدِّين، والإسلام، والإيمان، انقى وأطهر الدماء في بني آدم، فلم يخرج لدنيا يُصيبها، أو أي شيء من متعلقات الدنيا الفانية، بل خرج لله، وإصلاح خلق الله، كما قال – روحي فداه – في وصيته لأخيه محمد ابن الحنفية: “وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، فمَنْ قَبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَنْ ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين”.
فالحق رائد الإمام المصلح الذي يكون رائد أمته في حياتها، ويجب أن يكون (الرائد لا يكذب أهله)، ولكن أمته كذَّبوه، وذهبوا خلف الفاسق الفاجر فساقهم فسَّاقهم إلى أن يقتلوا سيدهم وقائدهم وإمامهم الحق بدون أي وجه حق، بل قتلوا الحق المشخَّص بالإمام، عليه السلام عليه السلام، وكثير منهم ما زالوا يبحثون ليشتركوا بقتله إما بالرضا بما فعله آباءهم المجرمون، أو حباً بسفك دماء الأولياء كالخوارج من مجرمي هذا العصر من قطعان الظلم والظلام الصهيووهابية الخارجة عن معاني البشرية والقيم الإنسانية.
وفي كل زمان هناك حق لا بدَّ منه، وعشاق له يدورون به ويطوفون حوله، والحب درجات، والعشق مراتب، وطوبى لأهل الجذب الذين ينجذبون إلى معشوقهم فينسون أنفسهم في حضرته، ويسهون عن ذواتهم في رؤيته، ويلهون عن الدنيا لتحقيق رغبته، كأصحاب الإمام الحسين، عليه السلام الذين قلَّ نظيرهم في أصحاب الحب في الله الحق.
ومن أولئك الكرام كان العملاق الكبير ذا الهمة العالية والقلب الكبير الشهيد السعيد مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) الذ تربى مع الإمام الحسين عليه السلام، في بيت عمِّه أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، الذي ربَّاه وعلمه، ودرَّبه، حتى إذا كبر واشتدَّ عوده واستقام شبابه زوجه ابنته فكان من أقر بالمقربين إلى الإمام الحسين، عليه السلام من كل الجهات، ولذا وصفه بتلك الأوصاف الرائعة، والراقية جداً عندما كتب له رسالته وأرسله إلى أهل الكوفة حيث قال فيها: “أنا باعثٌ إليكم أخي، وابن عمِّي، وثقتي من أهل بيتي، مسلم بن عقيل، فإن كتبَ إليَّ بأنه قد اجتمع رأي ملاءكم، وذوي الحِجى والفضل منكم، على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكاً، إن شاء الله”. (بحار الأنوار: ج 44 ص 334).
فهذه الصفات الثلاثة العجيبة التي وصف بها الإمام الحسين، عليه السلام سفيره إلى أهل الكوفة؛ “أخي، وابن عمِّي، وثقتي من أهل بيتي”، قد لا تجتمع في غيره من بني هاشم الأكارم.
⭐ في مسيرة وسيرة كربلاء حيث الحديث عن الحب الذي لا يُقاس، ولا يعرفه معظم الناس، بل هو العشق المنير، الذي يُنير الروح ويُحيي الضمير
ولذا قال عنه السيد المرجع السيد المدرسي، دام ظله: “لقد كان مسلم فقيهاً قائداً، وبطلاً باسلاً، وقد صاغته آيات الكتاب، وسوح الجهاد، وعبادة الأسحار؛ حتى رفعه الله مقاماً محموداً كانت حياته ارخص شيء عنده إذا أحسَّ بأدنى خطر على الدِّين
لقد وسّعت آيات الكتاب آفاق بصيرته، فكان ينظر إلى الدنيا إنها مجرد متاع في الآخرة، وأن اللبيب من يشري نفسه ابتغاء مرضاة ربه”. (مسلم بن عقيل سفير الحسين).
وكتبتُ عنه يوماً هذه الكلمات: “نعم؛ إنه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، عليه السلام، الذي تعَمْلق في ملحمة كربلاء، لأنه كان فيه قابلية العملقة، بل هو عملاق عظيم منذ البداية ولهذا اختاره سيد الشهداء ليكون سفيره ووصف بالأخوة والثقة، فما هو السِّر بشخصية مسلم؟
الحقيقة أنه تربى في حضن عمه العظيم أمير المؤمنين، عليه السلام، ودرج في بيت عمه الإمام فعرف معنى الإمامة وأدرك سرها ومعناها، واستوعب بقلبه الكبير مضمونها ومغزاها، وهذا كله جعله ابناً من أبنائه، وولداً من أولاده، فهو كأبي الفضل العباس، عليه السلام، إلا أنه من صلب عقيل.
فعظمة مسلم بن عقيل تنبع من عمِّه الإمام علي، عليه السلام، وتتفرع عند الإمام الحسن والحسين، وآتت أكلها في نهضة كربلاء الخالدة، فانزرع شجرة طيبة مباركة في مسجد الكوفة المعظم.. فكبرت وأورقت وانتشر ظلالها على الزمان والمكان..
نعم؛ انه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، الذي التصق بعمه حتى يعبَّ من فكره ويزقه من علمه، فبناه جسماً وروحياً، فغذَّاه ونمَّاه وعندما كبر أعطاه ابنته لتكون زوجته وسكنه، فهل كان ذلك لجهل بمسلم – حاشاه – أم بعلم ودراية من الإمام، وقابلية، واستحقاق من مسلم.
مسلم أهل لكل خير، وقابل لكل فضيلة، أعطاه الإمام علي، ليكون ظهيراً كبيراً وسفيراً لولده البار العظيم سيد الشهداء الإمام الحسين السبط”.
فالسِّر في شخصية مسلم العملاقة؛ أنه ملأ إيماناً، وعقيدة، ويقيناً، ولذا تراه عندما سنحت له الفرصة بالانقضاض على عدوِّ الله وعدوِّه عبيد الله بن زياد في بيت هانئ بن عروة لم يستغلها لأنه سمع ووعى وحفظ حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن”.
فدفع حياته ليكون أول نخلة في بستان الكرامة والشهادة الحسينية في مسيرته المظفرة.