تتميّز الشخصية الرسالية القويّة عن غيرها في أنها قادرة على إنجاز الكثير من الأمور، وتحقيق الاهداف التي رسمتها لنفسها، ولكن رساليّاً لا يجوز أن يكون الانجاز على حساب القيم؛ فمثلا ليس المطلوب اكتساب القوة على حساب العدالة أو الحرية، المطلوب بناء الشخصية القوية المتماسكة في الاتجاه الصحيح ولتحقيق أهداف سامية.
لاشكّ أن (هتلر) كان يتمتع بقوة الشخصية، ولولا بعض الاخطاء التي ارتكبها عسكريا لربما كان يمتلك الكرة الارضية كلها، ويتحكم بمصير جميع الأمم، وهو ترك آثاراً لا تزال مستمرة، حيث إن الحرب العالمية الثانية التي شنّها الرجل غيّرت الكثير من المعالات، ولا تزال تلك الآثار المدرة باقية، لكنّ شخصية هتلر وأمثاله مرفوضة، فليس المطلوب فقط امتلاك قوة الشخصية، وتحقيق انجازات على الارض، دون رعاية القيم والمُثل الحقّة.
(ستالين) أيضا كانت شخصية قوية وبنى للاتحاد السوفيتي قاعدة متينة في البُعد الصناعي والعسكري، وكذلك بقية الطغاة في هذه الحياة، كانت لهم شخصيات قوية، لكنها لم تكن في الاتجاه الصحيح، ومن ثم لم تنفع البشرية.
⭐ وأن نتقدم كل يوم خطوة بهذا الاتجاه، نجدد النية في سبيل الله ـ تعالى ـ ونتحمل المسؤولية حيث لا يتحملها الآخرون
ونحن حينما نتحدث عن قوة الشخصية فإنما نريد ذلك في سبيل الحق وليس في سبيل الباطل، أي أننا نريدها شخصية رسالية، فما هي مميزات هذه الشخصية؟
- أولا: الالتزام بالقيم والمُثل:
إن الشخصية الرسالية تلتزم في نفسها بالمثل والقيم، ولا تتجاوزها حتى من دون ان يكون عليها رقابة من الآخرين، أي انها تخاف الله ـ عز وجل ـ ولا تخاف الناس، وأحيانا تخسر الكثير من مصالحها الخاصة لتناقضها مع المُثل والقيم التي تؤمن بها، يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
إن المؤمن الصادق هو من يتلزم بالعدل، وبالاحسان، وبالكرم، وبالعطاء، وبالتعاون مع قطع النظر عما لو كان هذا الالتزام يؤدي به الى ان يربح الدنيا او يخسرها، فالمهم عنده هو ان يكسب رضا الله عز وجل.
- ثانيا: تحمل المسؤولية:
الشخصية الرسالية تتحمل مسؤولياتها مع قطع النظر عن تحمل الآخرين لها أو عدم تحملهم، فالرسالي يعمل كما يعمل الضمير، فحينما يسكت الآخرون يتكلم الرسالي، وحينما يتراجع الآخرون يتقدم الرسالي، وحينما يتقاعس الآخرون عن تحمل المسؤولية يبادر الرسالي الى تحملها، وربما يؤدي ذلك الى ان يخسر حياته لكنه لا يهتم بذلك، ومثالنا هو الإمام الحسين، عليه السلام، الذي تحمّل مسؤوليته الكاملة حينما تقاعس الجميع، واستسلم الجميع للباطل، وتراجع الجميع عن نصرة الحق، وتنازل الجميع عن حقوقهم..، وكذلك جميع الانبياء والأوصياء، عليهم السلام، كانوا يتمتعون بهذه الميزة فكانوا يُبعثون في هجعة من الامم، فيثيرون كوامن العقول، ويدفعون الناس الى الخير والصلاح.
- ثالثا: العمل للآخرة لا للدنيا:
إن الشخصية الرسالية تعمل للآخرة لا للدنيا، فإذا تناقض الأمر بين الدنيا والآخرة، تركتْ الدنيا وتمسكت بالآخرة، ولا يعني ذلك أنها تترك الدنيا وما فيها، إنما تقدّم الآخرة في الاماكن التي تتعارض مع الدنيا، فربما تجتمع المصلحة الدنيوية والأخروية في شيء واحد، فالشخصية الرسالية تلتزم بالعمل للآخرة لكن ليس بترك الدنيا، لانه ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق، عليه السلام: “ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لديناه”.
فمثلا؛ الرسالي يتزوج لان الله ـ تبارك وتعالى ـ أمره بذلك، وله في ذلك مصلحة دنيوية أيضا، فهنا العمل للآخرة يجتمع مع العمل الدنيوي، ومصلحته الشخصية مع مصالحه الدينية، لان الله خلق البشر هكذا: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ}.
- رابعا: العمل لله تعالى:
بين المؤمنين الرساليين وبين الله ـ تعالى ـ عهد لا ينقضونه، {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}، ولذلك لا يقومون بعمل إلا وهو يبايعون الله فيه؛ بمعنى أنه في سبيل الله، حتى فيما يرتبط بطعامهم وشرابهم، ومسكنهم وملبسهم، وفالمؤمن يأكل لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق هكذا محتاجا للطعام، ولكي يتقوى بالطعام على الطاعة، ويعمل للزرق لأن عليه تحصيل الرزق لنفسه ولعائلته، أي يصحح النية في داخله لله وحده دوما، ليس فقط في الحالات التي تتناقض فيها إرادة الله مع إرادة البشر، وإنما حتى في الحالات العادية فهو يقوم باعماله، حتى اليومية في سبيل الله، ولكسب رضاه، قال نبينا الاكرم، صلى الله عليه وآله: “يا أبا ذر ليكن لك في كل شيء نية حتى في النوم والأكل”.
- خامسا: محاسبة النفس:
المؤمن يحاسب نفسه دوما، ويزن اعماله وميزانه هو كلام الله ـ تعالى ـ والنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته، عليهم السلام، فترى المؤمن الرسالي دائما ما يعرض نفسه على القرآن الكريم، وينظر في الآيات التي ذُكر فيها المؤمنون، فيرى هل تنطبق صفاتهم عليه؟ وكذلك يبحث عن الآيات التي تبدأ بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ويلبي نداء ربه بتطبيق ما في الآيات.
⭐ ليس المطلوب اكتساب القوة على حساب العدالة أو الحرية، المطلوب بناء الشخصية القوية المتماسكة في الاتجاه الصحيح ولتحقيق أهداف سامية
كذلك يبحث في الروايات والاحاديث يبدأ في تطبيقها وتطوير ذاته وفق بصيرة كلام أهل البيت، عليهم السلام، لان اهل البيت قد بينوا لنا في كثيرمن الروايات صفات ومميزات الشخصية الرسالية المؤمنة، وحري بنا ان نلتزم بهذه الاحاديث ونحولها الى مناهج عملية في حياتنا اليومية.
فعلى سبيل المثال يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصالٍ:
- وقور عند الهزائز.
- صبور عند البلاء.
- شكور عند الرخاء.
- قانع بما رزقه الله.
- لا يظلم الاعداء.
- ولا يتحامل للأصدقاء.
- بدنه منه في تعب.
- والناس منه راحة”.
ثم يقول الإمام عليه السلام: “إن العلم خليل المؤمن والحِلم وزيره، والصبر امير جنوده والرفق أخوه واللين والده”.
والسؤال الذي قد يُطرح هنا هو: كيف نعزّز هذه الصفات في أنفسنا؟
والجواب: ان نحاول الالتزام بها مهما كلف الأمر كما قال الإمام علي، عليه السلام: “ألا وانكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد”.
وأن نتقدم كل يوم خطوة بهذا الاتجاه، نجدد النية في سبيل الله ـ تعالى ـ ونتحمل المسؤولية حيث لا يتحملها الآخرون، ولا تأخذنا في الله لومة لائم، وبذلك نكون مثل من يريد الوصول الى القمة، فهو يخطو خطوة بعد خطوة، وكما يقول المثل الصيني المعروف: (إن اطول رحلة بدأت بخطوة).
فلتبدأ الخطوة الأولى الآن، فأنت حينما تقرأ هذا الكتاب افعل ذلك في سبيل الله، ولتكن لك نية خالصة في كل شيء، فعليك أن تقرأ لله، وتكتب لله، وتأكل لله، وتنام لله، وتتزوج لله وهكذا. ولتكن لك بصيرة في الامور، واستضيء دوما بنور الهدى، فقد “فاز من استصبح بنور الهدى”، وضعْ قول أمير المؤمنين، عليه السلام، نصب عينك دوما: “أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الحق لقلة أهله فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبَعُها قصير وجوعها طويل”.