- مقدمة قرآنية
نحن نقف على أبواب وأعتاب موسم من أعظم مواسم النور، والخير، والبركة، ألا وهو شهر الضيافة الرَّبانية، والكرامة الرَّحمانية، حيث أقبل إلينا شهر عظيم ليلة فيه تعدل ألف شهر، والعمل فيها يساوي العمل في ألف شهر من دونها، نعم؛ إنه شهر الله المعظم، شهر الرحمة، والغفران، والقرآن.
ولقد نزل القرآن في شهر رمضان، وحتى كل الكتب السماوية نزلت فيه، لأنه شهر الله ولا شك ولا ريب أنه الأجدر أن ينزل فيه كلامه لهداية خلقه وعباده إلى طريقه اللاحب، وصراطه المستقيم، ولذا فإن من أعظم العبادات، والطاعات، والقربات فيه تلاوة كتابه الحكيم والتدبر في آياته، لأنه “مَنْ تَلاَ فِيهِ آيَةً مِنَ اَلْقُرْآنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ اَلْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ اَلشُّهُورِ”، فكيف مَنْ تلاها وتدبر فيها، وتأمل في معانيها ومصاديقها وعمل بما تأمره به أو تنهاه عنه؟
⭐ القرآن الحكيم نزل من أجل سعادة الإنسان وليس لشقائه، فهو كتاب السعادة الإنسانية لأنه نزل بالَّرحمة من عند الرَّحمن الرَّحيم
والقرآن الحكيم نزل في شهر رمضان للعمل وليس لمجرد القراءة والتلاوة – ولها من الأجر والثواب ما لا ينكره مسلم – ولكن الحق يقال أيضاً أن القرآن الحكيم دستور عمل ومنهاج كد وجد واجتهاد في سبيل الترقي والتسامي في حياتنا كلها، لأنه كتاب حياة لصناعة الأحياء، وليس كتاب موت يقرأ على الأموات، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. (الأنفال: 24). فدعوة القرآن الحكيم لحياة إنسانية كريمة بكل مبانيها ومعانيها، فهو كتاب بناء وحضارة.
- القرآن منهج للسعادة
وعلى ذلك فإن القرآن الحكيم نزل من أجل سعادة الإنسان وليس لشقائه، فهو كتاب السعادة الإنسانية لأنه نزل بالَّرحمة من عند الرَّحمن الرَّحيم، الذي سبقت رحمته غضبه، وسخطه، فأصل الحياة الإنسانية كانت وابتدأت بالرَّحمة، ولذلك كان حلم الإنسان – كل إنسان – منذ أن خلق الله أبانا آدم وأهبطه إلى هذه الحياة غرس في فطرته وعجن طينته بماء الرَّحمة فصار يتطلع إلى السَّعادة، ويبحث عنها في كل شيء وطيلة حياته ولكنه لا ولن يجدها في الواقع الخارجي، لأنها موجودة ومغروسة في داخله ونفسه الداخلية فكيف سيجدها في العالم الخارجي؟
كما أن الإنسان مخلوق متكامل ومتنامي ومبارك يبحث عن كماله لأن فيه نقص، وعن قوته لأنه مركب على الضعف، وعن التسامى لأنه متسافل، فهو مكوَّن من عنصر ملكوتي يدفعه للتسامي والتكامل والرِّفعة، وعصر ناسوتي أرضي يشدُّه إلى التدني والإنخفاض والتسافل، وأي منهما يغلب الآخر ستكون نتيجة الإنسان النهائية.
والإنسان في حقيقته مخلوق مفضَّل على غيره، ومكرَّم من خالقه لأنه رفعه وفضَّله على كثير من المخلوقات بل وسخَّرها لتكون في خدمته، وجعله ذا كرامة في نفسه ولم يسمح له بإذلالها وإهانتها ولذا أمره بالدفاع عن نفسه وجعل المقتول في سبيل ذلك شهيداً عنده.
والقرآن الحكيم فيه كل هذه المنظومة القيمية التي تكرِّم وتفضِّل وترفع الإنسان ليكون أرفع وأعظم من الملائكة المقربين، ومَنْ يبتعد عنه سيكون أذل وألعن من الأبالسة والشياطين، فالخالق الذي أنزل هذا الكتاب الكريم ليكون دستوراً لصناعة الإنسان الفاضل، والمستقيم، وبلغة قرآنية التقي النقي الطاهر، وهذا الإنسان وبهذه المواصفات يصنع الأسرة الفاضلة، وهؤلاء يسعون لبناء الأمة المؤمنة، وهي أمينة وضامنة لصناعة الحضارة القيمية الإنسانية التي يتطلع إليها الإنسان السَّوي في فطرته النقية، وصبغته الصَّافية من شوائب المجتمع والفاسدين من أفراده، والشياطين من أبنائه.
- الحياة دار بلاء
والإنسان خُلق للسعادة والهناء وليس للعناء والشقاء، ولكن الله جعل في هذه الحياة سُننا وحقائق كبرى حاكمة عليها، وهي المراقبة والقائمة على تلك السُّنن الكونية أو الاجتماعية، وهي من الحق الذي قامت عليه الحياة الدنيا، والذي به خُلقت السماوات والأرض، أي أنها قوانين ونُظم ثابتة لا تتغير ولا تتبدل سواء كانت في الكونيات كالجاذبية وحركة الشمس والقمر والأجرام السماوية، أو الاجتماعيات كسُنة الإبتلاء والامتحان التي قال عنها سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (الروم: 3).
فالفتنة والامتحان والتكليف هو تشريف وتعظيم للإنسان لإظهار حقيقته، وما يضمره ولذا جميل ما يشير إليه سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه)، في بيانه عن حكمة الابتلاء والامتحان حيث يقول: “إن مشكلة الإنسان منذ أن خلقه الله عز وجل وحتى يومنا هذا هي مشكلة إبتعاده عن فطرته، ومحاولته أن ينظر إلى الحياة من زوايا جانبية لا بشكل مباشر.. فلقد زوّد هذا الانسان بمقياس واحد لكي يكتشف الحياة من حوله، ألا وهو العقل والفطرة، فإذا ما انسحب العقل من العمل، وتغيرت الفطرة، فماذا يبقى للإنسان؟ لا يبقى له حلّ سوى أن ينسحب هو بدوره.
وعلاج هذه المشكلة هو علاج إلهي من خلال إبتلاء الانسان بالمصائب والمآسي، فالحكمة منها هي إثارة فطرة الانسان، وإعادته إلى حالة نقائه وطهره، وبتعبير آخر؛ إلى نقطة البداية التي لا بدَّ أن يبدأ منها، من خلال إزالة الحجب التي حالت دونه ودون استيعاب الحقائق”. (الابتلاء مدرسة الاستقامة: ص55).
- شهر رمضان شهر السعادة
وشهر رمضان المبارك فرصة حقيقية لتحقيق السعادة للشباب خاصة، وذلك إذا فهمنا تلك المقدمات السريعة فيمكن لنا أن نفهم معنى الصوم الحقيقي في شهر رمضان، فهو شهر الابتلاء والامتحان لإخلاص الإنسان لأن الصوم حالة وعبادة محصورة بين العبد وربه فلا أحد على وجه الأرض يمكن أن يعرف الإنسان إذا كان صائماً حقاً، أو أنه مفطر، أو أن صومه فاسداً ولذا ورد في الحديث القدسي: “اَلصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ”، فحقية صوم الإنسان لا يعلمه إلا الله تعالى، وهنا تكمن الفرصة للشباب خاصة فليمتحن نفسه وعزيمته وليشحذ إرادته في هذا الموسم العبادي بكل ما يستطيع لتحقيق السلام الروحي والنفسي له.
ولننظر لهذا شهر الكريم بأنه امتحان حقيقي وواقعي للإنسان طيلة هذا الموسم النوراني والعبادي، فربنا يغلُّ الشياطين فيه ويترك الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء، ليكون الامتحان والاختبار حقيقياً للنفس البشرية دون وسوسة الشياطين، وبذلك نضمن سلامة نتائج الامتحان في نهاية هذا الشهر الكريم، فيمكتح الشباب أنفسهم وليكونوا صادقيقن بذلك.
فهو شهر إثارة الفطرة الأولى، والطينة الحقيقية، والصبغة الأولية التي خُلق الإنسان عليها وجعل الله سبحانه قيادها وزمامها بيد الإنسان عن طريق عقله وإرادته، فإن كانت نفسه منقادة إلى عقله فإنه سيصوم النهار، ويقوم الليل، ويتلو آيات القرآن ويتدبر فيها ويتخذها منهاجاً لحياته وعندها سيعيش حالة من السعادة النسبية، وذلك بالراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، الذي يمكن لنا أن نصفه بالسعادة في هذه الدنيا، وهذا دفع لحالة الشقاء أيضاً.
⭐ شهر إثارة الفطرة الأولى، والطينة الحقيقية، والصبغة الأولية التي خُلق الإنسان عليها وجعل الله سبحانه قيادها وزمامها بيد الإنسان عن طريق عقله وإرادته
وأما إذا جعل نفسه وقيادتها تحت أمر الهوى والنفس الأمارة بالسوء فإنه سيدسُّ نفسه في تراب الرذيلة، ويغطي روحه بغطاء المعصية، فسيفسد صومه في النهار، ويسرح لمعاصيه في الليل، ولن ينتفع من صومه إلا الجوع والعطش، وسيكون حاله في تلاوته لآيات القرآن إذا قرأها بقوله (ص): (رُبَّ تَالِي اَلْقُرْآنِ وَاَلْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ)، ورب صائم لشهر رمضان وهو يلعنه، ومصلي والصلاة ترجع إليه وتضرب وجهه وتقول له: (ضَيَّعَكَ اَللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، وَلاَ يُعْطِي اَللَّهُ اَلْقَلْبَ اَلْغَافِلَ شَيْئاً)، وهذا هو عين الشقاء للبشر في هذه الدنيا.
- فرصتنا للرحمة والسعادة
فشهر رمضان المبارك هو فرصة للتكامل والتنامي والتسامي في أنفسنا وأرواحنا، فلا نغفل عن ذلك بل نضعه نصب أعيننا من بداية هذا الشهر الكريم ونعمل على أن يكون كل يوم من أيامه يرفعنا درجة باتجاه السعادة التي نطلبها ونبحث عنها في هذه الحياة.
فالسعادة في القلب المطمئن بذكر الله، وبالنفس المطمئنة بكرامة الله تعالى، وليعلم الجميع أن الشقي حقاً (اَلشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اَللَّهِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ اَلْعَظِيمِ)، فلا نشقى وباب الرحمة الإلهية مفتوح، ولكن لا ندخله، وأبواب النيران موصدة ومغلقة فلماذا نشقى وننتظر أمام أبواب جهنم ولا ندخل إلى رحاب جنان الخلد الوارفة بكل ما فيها من خيرات وبركات؟ أليس هذا هو الشقاء الذي يقضُّ مضاجعنا ونحاول أن نهرب منه فنقع فيه أكثر؟
فعلاج مسألة الشقاء والوصول إلى السعادة والاطمئنان الروحي سنبحثها في هذه المنظومة القيمية السماوية، من خلال آيات القرآن الحكيم، التي عالجت هذه المسألة وأعطت لنا مفاتيح السعادة ودفع الشقاء إذا ما أحسنا أخذها واستخدامها وهذا ما سنتناوله في هذه السلسلة من المقالات القرآنية في هذا الشهر الكريم.
لأنني شعرت وأحسست بإخوتي وأبنائي الشباب الذين يعيشون ضنك العيش ويُعانون الشقاء في هذا العصر الذي توفرت فيه الكثير من وسائل الراحة والرفاهية والمفروض أن يكونوا سعداء، وذلك لأنهم أضاعوا مفاتيح السعادة في هذه الحياة، وأجدها فرصة لنسلِّم لهم تلك المفاتيح التي بيَّنها وأوضحها وأشار إليها ربنا سبحانه في آياته الكريمة. أسال الله أن يوفقنا وجميع المؤمنين للسعادة والطمأنينة والراحة والسكينة في هذا الشهر الكريم، ببركة محمد وآل بيته الطيبين الطاهري المنتجبين.