لا يمكن للخاتم ان يحيط بالجبل، ولا يمكن للعصفور ان يحمل ماء البحر، ولا يمكن للفراشة بلوغ القمر، ولا يمكن للعين النظر في الشمس، كذلك علي، عليه السلام،لا يمكن ان نحيط بميزات شخصيته وعظمة مقامه وغزارة علمه.
في هذا المقام نبيّن قطرة من هذا البحر العظيم فنذكر شيء من ميزاته ونتدبر في افعاله وكلماته لنقتبس منها شيء من النور الساطع الذي به ننير بصائرنا.
في هذا المقال المختصر نتدبر في جزء من الرواية العظيمة الواردة في كتاب الأمالي للشيخ الصدوق، رضوان الله عليه، بعد تجزئتها لعدة عناوين، التي تذكر قصة من قصص حياة امير المؤمنين عليه السلام.
١- الفقر و ضغط الظروف العائلية
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ قَالَ: “أَصْبَحَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، ذَاتَ يَوْمٍ سَاغِباً (يوم شديد الحر) فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ تُغَذِّينِيهِ؟
قَالَتْ: لاَ وَ اَلَّذِي أَكْرَمَ أَبِي بِالنُّبُوَّةِ وَ أَكْرَمَكَ بِالْوَصِيَّةِ مَا أَصْبَحَ اَلْغَدَاةَ عِنْدِي شَيْءٌ وَ مَا كَانَ شَيْءٌ أُطْعِمْنَاهُ مُذْ يَوْمَيْنِ إِلاَّ شَيْءٌ كُنْتُ أُوثِرُكَ بِهِ عَلَى نَفْسِي وَ عَلَى اِبْنَيَّ هَذَيْنِ اَلْحَسَنِ وَ اَلْحُسَيْنِ”.
فلم يكن في دار علي، عليه السلام شيء من الطعام حتى يأكل ولا حتى ثلمة رغيف من الخبز، فعلي لم تتجسد فيه البطولة والرجولة والشجاعة فقط، بل تمثلت فيه كل القيم وكان من ابرزها الزهد بالدنيا والرغبة بالآخرة فلم يكن يهتم للدنيا، وهو من قال اروع كلمة في ذم الدنيا قال، عليه السلام: “لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ”. (معاني الاخبار).
٢- زوجة علي مدرسة العلم التربوي
العظمة تجلت في أمير المؤمنين، عليه السلام، و في زوجته فحقاً ان السيدة فاطمة، عليها السلام، كانت النموذج الامثل للزوجة الصالحة، وقدوة حسنة فتجلت فيها جميع الفضائل وتجسدت فيها كل القيم.
فما اعظم صبرها؟
وزهدها؟
وما اعظم حبها لزوجها؟
فكيف لأم ان تتحمل رؤية اطفالها الصغار يتضورون جوعاً، لكنها تصبرهم، وتطعم اباهم، وتبقى هي واطفالها بلا طعام خالية بطونهم!
فما اعظم هذه الزوجة؟
وكيف ربت ابنائها على حب ابيهم والتضحية من اجله، وان التضحية من اعظم القيم، فهذه افعالها هي خطوات عظيمة في التربية الصالحة للأبناء الذي تخبط العالم اليوم ولم يصل لأسرار التربية المثلى للأطفال، فهذه التربية المثالية وغرس المفاهيم في نفوس الابناء بشكل عملي ومنذ الصغر، بدوره هو من أنشأ رجال تصدوا للتحديات وأدوا المسؤوليات وضحوا في سبيل الله بأعز ما يملكون.
⭐ العظمة تجلت في أمير المؤمنين، عليه السلام، و في زوجته فحقاً ان السيدة فاطمة، عليها السلام، كانت النموذج الامثل للزوجة الصالحة
فاطمة الزهراء، عليها السلام، مدرسة تفيض بالعلم الأسري والتربوي والنفسي..، من العلوم التربوية، فمن تأمل في حياتها سيكتب ملايين الكلمات من الدروس التي يستنبطها من افعالها وحركاتها وسكناتها وكلماتها.
“فَقَالَ عَلِيٌّ، عليه السلام: “يَا فَاطِمَةُ أَلاَ كُنْتِ أَعْلَمْتِينِي فَأَبْغِيَكُمْ شَيْئاً فَقَالَتْ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ إِلَهِي أَنْ أُكَلِّفَ نَفْسَكَ مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ”
آلاف الكتب من الإرشاد الأسري والزوجي لا تصل لهذا المستوى العالي والرائع ولا يقدر على صناعة نموذج كهذا النموذج الاسلامي المتكامل، فهذا العش الزوجي لأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء، عليهما السلام، فالزهراء تحملت وصبرت على شدة الفقر وآلام الجوع في بيت زوجها.
امير المؤمنين، عليه السلام، هو الشاب الرسالي الذي اشغلته ادواره الرسالية المحورية في الأمة الاسلامية فأنشغل عن الدنيا وطلبها وزهد فيها، فهذا بيته يعاني الفقر والجوع، لكنه متجلداً وصابراً ولم يتخذ ذلك تبريراً ليهرب من مسؤولياته المكلف بها من قبل القيادة الرسالية النبوية المحمدية .
٣-الثقة بالله في مواجهة الهموم:
“فَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ عِنْدِ فَاطِمَةَ، عَلَيْهَا اَلسَّلاَمُ، وَاثِقاً بِاللَّهِ بِحُسْنِ اَلظَّنِّ”
في الشدائد كان أمير المؤمنين، عليه السلام، يلوذ بالركن الوثيق وهو الله ـ عز وجل ـ، بل ليس بالشدائد فقط وانما بكل لحظة من حياته، واثقاً بالله ومحسناً فيه الظن، بل هو على يقين من رعاية الله له بكل ما يحتاجه.
“فَاسْتَقْرَضَ دِينَاراً”، فلم يكن يمتلك شيئا من المال حتى يشتري به ما يسد جوع زوجته ويسكت آلام جوع اطفاله.
٤- تراكم الهموم والدور الاجتماعي تجاه الرساليين
“فَبَيْنَا اَلدِّينَارُ فِي يَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ لِعِيَالِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ فَتَعَرَّضَ لَهُ اَلْمِقْدَادُ بْنُ اَلْأَسْوَدِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ اَلْحَرِّ قَدْ لَوَّحَتْهُ اَلشَّمْسُ مِنْ فَوْقِهِ وَ آذَتْهُ مِنْ تَحْتِهِ فَلَمَّا رَآهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَنْكَرَ شَأْنَهُ فَقَالَ:
يَا مِقْدَادُ مَا أَزْعَجَكَ هَذِهِ اَلسَّاعَةَ مِنْ رَحْلِكَ؟
قَالَ:يَا أَبَا اَلْحَسَنِ خَلِّ سَبِيلِي وَ لاَ تَسْأَلْنِي عَمَّا وَرَائِي؟
فَقَالَ: يَا أَخِي إِنَّهُ لاَ يَسَعُنِي أَنْ تُجَاوِزَنِي حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَكَ
فَقَالَ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ رَغْبَةً إِلَى اَللَّهِ وَ إِلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلِي وَ لاَ تَكْشِفَنِي عَنْ حَالِي
فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنَّهُ لاَ يَسَعُكَ أَنْ تَكْتُمَنِي حَالَكَ فَقَالَ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَوَ اَلَّذِي أَكْرَمَ مُحَمَّداً بِالنُّبُوَّةِ وَ أَكْرَمَكَ بِالْوَصِيَّةِ مَا أَزْعَجَنِي مِنْ رَحْلِي إِلاَّ اَلْجُهْدُ وَ قَدْ تَرَكْتُ عِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ جُوعاً فَلَمَّا سَمِعْتُ بُكَاءَ اَلْعِيَالِ لَمْ تَحْمِلْنِي اَلْأَرْضُ فَخَرَجْتُ مَهْمُوماً رَاكِبَ رَأْسِي هَذِهِ حَالِي وَ قِصَّتِي.
بعد ان استقرض أمير المؤمنين، عليه السلام، الدينار قصد السوق عسى ان يشتري شيئا من الطعام ليعود به مسرعاً الى عائلته التي كانت تنتظر قدومه بعد ان غرس الجوع فيهم أنيابه منذ أيام، فالمرء في هذه الحالة لا يرى من هو امامه ويُذهل عن الناس لطلب حاجته ليعود ولا يتأخر، فربما تمر بنا ايام عندما يُشغل ذهننا بحاجةٍ ربما لا ننتبه لمن يلقي علينا السلام او من يكلمنا حتى، لكن علي كان منتبهاً لمن حوله وفي ذلك اليوم الذي كان شديد الحر وأشعة الشمس فيه حارقة رأى احد اخوانه الرساليين وهو المقداد الكندي، فسأله عن سبب خروجه وسبب همه وحزنه فلم يخبره المقداد.
⭐ المؤمن يرعى اخيه المؤمن نفسياً وتربويا وحتى مادياً فهذا امير المؤمنين، عليه السلام، لم يواسِ المقداد بالكلمات فقط، بل بالبكاء
فأصر عليه الامام، عليه السلام، رغم محاولته المتكررة في عدم اخبار الامام، عليه السلام، بحاله لكن كان اصرار اكبر حتى عرف حاجته ومشكلته، فالمؤمن الرسالي رغم ظروفه الضاغطة، عليه ان يهتم بأخوانه فأن رأى احدهم محزون مهموم ينبغي ان يسأله عن ذلك، ويهتم به ويسعى لقضاء حاجته ولا ينتظر ان يُطلب منه ذلك او ان يأتي اخيه الذي اضرت به حاجته الى بيته ويطرق بابه فالمؤمنين نفوسهم عزيزة وتأبى ان تطلب حاجتها من احد.
٥- مشاعر الرسالي ودوره تجاه المؤمنين
“فَانْهَمَلَتْ عَيْنَا عَلِيٍّ بِالْبُكَاءِ حَتَّى بَلَّتْ دَمْعَتُهُ لِحْيَتَهُ فَقَالَ لَهُ: أَحْلِفُ بِالَّذِي حَلَفْتُ مَا أَزْعَجَنِي إِلاَّ اَلَّذِي أَزْعَجَكَ مِنْ رَحْلِكَ”.
المؤمن يرعى اخيه المؤمن نفسياً وتربويا وحتى مادياً فهذا امير المؤمنين، عليه السلام، لم يواسِ المقداد بالكلمات فقط، بل بالبكاء، فبكى حتى ابتلت لحيته الكريمة، لشدة تأثره وتفاعله مع المقداد، فلا يجوز للرسالي ان يستهزء بتحديات الآخرين لأن ظرفه التي يمر بها اصعب من ظروف الآخرين، بل عليه ان يواسيه ويعطيه حقه في المواساة، فظروف علي، عليه السلام، اصعب من المقداد فمنذ يومين لم تتذوق الطعام عائلة الامام عليه السلام.
٦- الايثار السمة البارزة للمؤمن:
“فَقَدِ اِسْتَقْرَضْتُ دِينَاراً فَقَدْ آثَرْتُكَ عَلَى نَفْسِي فَدَفَعَ اَلدِّينَارَ إِلَيْهِ” العطاء قيمته عندما تعطي كل ما تملك، بل تعطي ما انت اليه بأمس الحاجة والضرورة، والآية القرآنية التي تتكلم عن عظمة صفة الايثار تقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.