لابد من وجود اسباب وعوامل تؤدي بالأمة الى الشقاء والتخلف والتبعية وما الى ذلك من سلبيات، وهناك عوامل واسباب تدفع الأمة لان تسير نحو التطور والتحرر تحت الظلال الوارفة للسعادة والكرامة، ترى ما هي هذه العوامل والاسباب؟
عندما نتلو بتمعن وبصيرة آيات الذكر الحكيم، نلمس انها تركز عادة على العوامل والاسباب الذاتية للتقدم او التخلف، ولا تتطرق في حديثها الى الاسباب الموضوعية إلا بنزر يسير، ترى هل أن عوامل تقدم الأمة تكمن في كون ارضها خصبة معطاءة؟ أم لان الامم الاخرى وقفت تؤازرها وتعينها؟ أم لان السَعد وُجد في طالعها؟! وعلى العكس من ذلك؛ هل ان اسباب تخلفها لابتلائها بنقيض تلك العوامل؟
ان عوامل السعد والشقاء هذه لا نجد لها ذكراً في القرآن الكريم، فلا نجد هناك على سبيل المثال آية تحدثنا عن أمة تخلفت لان الطغاة ارادوا لها التخلف والهزيمة، او لان ارضها فقيرة الى الثروات الطبيعية، او لان طالعها سيئ ومشؤوم، مثل هذه العوامل الخارجية نادرا مانجد لها ذكرا في القرآن الكريم، بل ان الذي يؤكد عليه هو العوامل الذاتية، ونورد على سبيل المثال بعضا من الآيات القرآنية كشاهد على ذلك: يقول تعالى: {إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، (سورة الإسراء: 7)، و{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، (سورة الرعد: 13)، ويقول تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا}، (سورة الإسراء: 15) ، و{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}، (سورة النجم: 39)، الى غيرها من الآيات الكريمة.
فالمسؤولية – اذن – محصورة أولاً وأخيراً في كيان الأمة الذاتي نفسه، وفي ذات الفرد الذي بمجموعه يتشكل كيان الأمة، فأنت ايها الانسان المسؤول الاول عن حياتك ومصيرك و وجودك وهويتك، على عاتقي وعاتقك تقع المسؤولية الاولى ومن بعدها تأتي المسؤوليات الاخرى.
ان مثل الأمة التي تعي وتعيش مسؤولياتها التاريخية بالنسبة الى تلك الغافلة المتجاهلة التي تحيا حياتها ساذجة تموج بها الامواج، وتذرّها الرياح، كمثل الفسيلة التي تنمو وتكبر شيئا فشيئا حتى تصبح نخلة في المستقبل تؤتي اكلها كل حين بأذن ربها، في حين يبقى العود اليابس الميت مغروسا في الارض حتى يتآكل تدريجيا ثم يهوي.
وعليه فان الانسان والأمة هما اللذان يؤثران في الطبيعة، ويصنعان منها وجودا حضاريا جديدا وراقيا، وليس العكس، فالطبيعة لا يمكن ان تكون حائلاً امام الانسان او الأمة ذات الارادة القوية، أما بالنسبة الى الأمة الميتة فان ظروف واحوال الطبيعة ومتغيراتها يمكن ان تموج بها، وتقذفها الى كل شاطىء، ولعل أجمل تصوير للتباين الكبير بين هذه الأمة وتلك، ما عرضه القرآن الكريم في بعض آياته اذ يقول تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}، (سورة الأعراف: 58). وفي موضع آخر يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، (سورة ابراهيم: 24-26).
تبرير التخلف بالضعف
ان المتقاعسين يدأبون على تبرير تقاعسهم وخنوعهم وتخلفهم بأنهم خلقوا ضعفاء، وحاشى لله – تعالى- ان يظلم عباده فيجعل أمة ضعيفة وأخرى قوية، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، (سورة فصلت: 46)، فادعاء كهذا يجر صاحبه الى منزلق الشك في العدالة الالهية، وهذا ما لا يغفره الله لصاحبه، فكيف يصح ان يدعي احد العمى وقد اعطي عينين يبصر بهما؟!، فلا ينبغي لأحد ان يبقى في اسر اغلاله الذاتية والله سبحانه قد رزقه العقل وأتاح له الفرص، ووفر له الامكانيات الهائلة، ولا يحق لنا بعد ذلك ان نبرر الجمود والتقاعس فينا باننا غير قادرين على فعل شيء، أو أنه «كتب علينا الضعف، ولغيرنا التسلط والقوة والغلبة». وربما غاب عن الكثير منا ان المظلوم او المستضعف قد يعاقبه الله – ايضاً – لانه رضي بالظلم والاستضعاف، فالله سبحانه لا يرضى ولن يقبل من عبده الذي خلقه فأحسن خلقه وتقويمه، ان يتمسكن ويستضعف نفسه، ويسكت عن كل ما ينزل بساحته من ظلم وجور وتعد.
لماذا لانستثمر هذه القوى الكامنة فينا، والامكانيات والثروات التي رزقنا بها لبناء حضارتنا ووجودنا، وقد جاء في الحديث الشريف ما مضمونه ان الانسان لو وجد ماء وأرضاً ثم افتقر فعليه لعنة الله. وهكذا فان المستكبرين يريدون لنا ان نتشبث بتبريراتنا الواهية لتخلفنا وانهزامنا، في حين أن القرآن يهتف ان يا ايها الناس انتم المسؤولون عن حياتكم، ولابد من ان تبلغوا الاهداف السامية بالتوكل على الله، والاعتماد على انفسكم وطاقاتكم. وللوصول الى الهدف المنشود والعمل من اجله، لابد من الاخذ بالنقاط التالية:
1- لابد من استغلال الفكر، واعمال العقل الذي وهبه الباري لعبده، ولذلك فان مسؤولية التقصير يتحملها الانسان إن هو لم يستثمر طاقة التدبير العقلي، فالعقل اذن؛ هو المصباح الذي ينير لنا طريق العمل نحو الرقي الحضاري، ولابد من استثماره ما امكن.
2- من الواجب استثمار كتاب الله الذي يقوم بمهمة الهداية والتوجيه وإيضاح معالم طريق العمل، فهو سراج يُضيء هذا الطريق الى جانب سراج العقل، فلابد من التدبر والتبصر في هذا الكتاب، وتجسيد تعاليمه في الحياة.
2- بذينك السراجين؛ القرآن والعقل، يمكننا ان نعمل على توحيد كيان الأمة، والمضي بها في سلم التطور والتقدم الحضاري، فان امتنا لم تتمزق ولم تتفرق الا حين اغفلت دور هذين النورين، وهذا القرآن يدعو الناس الى التمسك به والعمل وفق توجيهاته: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، (سورة المائد: 2)، و{واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، (سورة آل عمران: 103).
ان تشتت ابناء الأمة، وتفرق احزابها وتنظيماتها، يعني توجه كل مجموعة للبحث عمن ينصرها، ويشاطرها رؤاها، فان لم تجد فإنها تتجه – ربما – الى القوى الاجنبية، وهكذا يتمزق المجتمع الموحد الى مجموعات وطوائف تتجه الى هذه القوة او تلك حتى تسقط في شرك التبعية للاجنبي، واذا بالأمة يؤول مصيرها الى التمزق والضياع والانفصالية بعد ان تتكالب عليها القوى الطامعة.
المطلوب : الشعور بالمسؤولية
وهل يصح ان نبرىء ساحتنا عما يجري من ويلات ومآس؟ ولماذا ننتظر من يترحم علينا بالتغيير الذي نطلبه والله سبحانه يقول : {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}؟
ان مشكلتنا الكبرى تكمن فينا، والمسوؤلية الكبرى تقع على عواتقنا جميعا افرادا وجماعات، فليس من الصحيح ان نجلس في زاوية ننتظر الفرج من هذا الرئيس او ذاك وهذه الدولة او تلك، بل لابد من ان نعرف دورنا، ويعمل الجميع بمسؤولياتهم ولنوحد صفوفنا ونؤدي دورنا الفاعل سواء على صعيد العلماء ام الافراد ام السياسيين والاحزاب والتنظيمات، ولنتجنب كل ما يفرق صفوفنا، ويثبط هممنا، ويعيق مسيرتنا، وإلا فان الحال سوف لن يتغير.
وبكلمة؛ إن أي شعب؛ سواء في العراق، أم في افغانستان، أم في لبنان، وأي بلد آخر لابد أن يعي هو؛ أولا وآخراً، دوره ومسؤوليته في حركة التغيير، وهذا الوعي للمسؤولية، وبناء الارادة القوية سوف يعملان بشكل غير مباشر على توحيد الصفوف، وشد الازر. فلولا هذا التنازع الذي يقع بين صفوف ابناء الأمة الواحدة لما وجد الاجنبي منفذا يلج منه. والله – تعالى- لا يمكن ان يهبنا القدرة والسلطة والتمكن في الارض ونحن نعيش هذه الحالة من التمزق والتضاد فيما بين فصائلنا وجماعاتنا نتيجة التفكير الخاطىء.