للسيدة الزهراء، عليها السلام، منزلة إلهية خاصة، وهذه المنزلة تجلت في الأحداث التي رافقت حمل أمها السيدة خديجة بها، ثم ولادتها بتلك الطريقة الخاصة، مما يدلل على المكانة الاستثنائية للسيدة الزهراء، وهذه المسألة تتضح بالمثال، وتظهر بمزيد من البيان والمعلومات أيضاً، لأن الروايات تتحدَّث عن أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، تناول فاكهة من الجنة في المعراج، سواء كان تفاحة، أو أترجة، أو عنباً، أو رطباً، أو ثمرة خاصة، وبعضها يتحدث عن أنه، صلوات الله عليه وآله، أكلها في الأرض ولكن جاءته من الجنة، وربما أعظم وأكمل وأشمل حديث في هذا الباب وهو يناسب عظمتها وشرفها ومكانتها، صلوات الله عليها، هو ما ورد في البحار وغيره: بينا النبي، صلى الله عليه وآله، جالس بالأبطح (وادي مكة) ومعه عمار بن ياسر، والمنذر بن الضحضاح، وأبو بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، رحمه الله، إذ هبط عليه جبرائيل، عليه السلام، في صورته العظمى، قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه: يا محمد، العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحاً، فشقَّ ذلك على النبي، صلى الله عليه وآله، وكان محباً لها، وبها وامقاً.
قال: فأقام النبي، صلى الله عليه وآله، أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل حتى إذا كان في آخر أيامه تلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها: “يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك هجرة ولا قلى (بغض)، ولكن ربِّي عز وجل أمرني بذلك لينفذ أمره فلا تظني يا خديجة إلا خيراً، فإن الله عز وجل ليُباهي بك كرام ملائكته كل يوم مراراً، فإذا جنَّك الليل فاجيفي (أغلقي) الباب، وخذي مضجعك من فراشك، فإني في منزل فاطمة بنت أسد رضي الله عنها”.
⭐ للسيدة الزهراء، عليها السلام، منزلة إلهية خاصة، وهذه المنزلة تجلت في الأحداث التي رافقت حمل أمها السيدة خديجة بها، ثم ولادتها بتلك الطريقة الخاصة
فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مراراً لفقد رسول الله، صلى الله عليه وآله، فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل، عليه السلام، فقال: يا محمد العلي الأعلى يقرئك السلام، وهو يأمرك أن تتأهب لتحيَّته وتُحفته.
قال النبي، صلى الله عليه وآله: يا جبرائيل وما تحفة رب العالمين؟ وما تحيته؟ قال: لا علم لي.
قال: فبينا النبي، صلى الله عليه وآله، كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس، أو قال: إستبرق، فوضعه بين يدي النبي، صلى الله عليه وآله، وأقبل جبرائيل، عليه السلام، على النبي، صلى الله عليه وآله، وقال: يا محمد يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.
فقال علي بن أبي طالب، عليه السلام: كان النبي ، صلى الله عليه وآله، إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمَنْ يَرد إلى الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي، صلى الله عليه وآله، على باب المنزل، وقال: يا ابن أبي طالب إنه طعام محرَّم إلا عليَّ.
قال علي عليه السلام: فجلست على الباب وخلا النبي، صلى الله عليه وآله، بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبي، صلى الله عليه وآله، منه شبعاً، وشرب من الماء ريَّاً، ومدَّ يده للغَسل فأفاض الماء عليه جبرائيل، وغسل يده ميكائيل، وتمندله إسرافيل، عليهم السلام، فارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء، ثم قام النبي، صلى الله عليه وآله، ليصلي فأقبل عليه جبرائيل، فقال: الصلاة محرَّمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإن الله عز وجل آلَى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريَّةً طيِّبةً، فوثب رسول الله، صلى الله عليه وآله، إلى منزل خديجة.
قالت خديجة، رضوان الله عليها: وكنتُ قد ألفتُ الوحدة، فكان إذا جنني الليل غطَّيتُ رأسي، وأسجفت (أسدلتُ) ستري، وغلَّقتُ بابي، وصلَّيتُ وردي، وأطفأتُ مصباحي، وأويتُ إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبي، صلى الله عليه وآله، فقرع الباب، فناديتُ: مَنْ هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد، صلى الله عليه وآله.
⭐ الملاحظ من الحديث الشريف أن كل ما يتعلق بفاطمة الزهراء، عليها السلام، جاء من السماء، فالطعام، والشراب، والإناء، والماء، وملائكة السماء الكروبيين من حملة العرش المعروفين، إلى أكرم الخلق أجمعين رسول رب العالمين
قالت خديجة: فنادى النبي، صلى الله عليه وآله، بعذوبة كلامه، وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد، قالت خديجة: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي، صلى الله عليه وآله، وفتحت الباب، ودخل النبي المنزل، وكان، صلى الله عليه وآله، إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة، ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما، ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة غير أنه أخذ بعضدي، وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء، ما تباعد عني النبي، صلى الله عليه وآله، حتى حسست بثقل فاطمة،عليها السلام، في بطني“(1).
هل هذا يحتاج إلى بحث وتحليل، وتحقيق وتدقيق أو يحتاج إلى إيمان ويقين بهذا الرسول العظيم ورسالته الخاتمة، وبضعته الوحيدة، التي أكرمه بها وحيَّاه بهذه التَّحية الرَّحمانية المباركة، وأتحف أمَّته بل الإنسانية بهذه النَّسمة الجِنانية الرَّقيقة الطَّيبة؟
فالملاحظ من هذا الحديث الشريف أن كل ما يتعلق بفاطمة الزهراء، عليها السلام، جاء من السماء، فالطعام، والشراب، والإناء، والماء، وملائكة السماء الكروبيين من حملة العرش المعروفين، إلى أكرم الخلق أجمعين رسول رب العالمين، ولم يكن الأمر فجأة، وهديَّة بلا ثمن، بل كان لها مقدمات وتهيِّئة روحية عجيبة لم يتحدَّث التاريخ البشري بمثلها حيث جاء الأمر من الله سبحانه لرسوله الأكرم، صلى الله عليه وآله: “أن يعتزل خديجة أربعين صباحاً”، هذه الأربعين تُقضى بصوم النهار وقيام الليل، ومن ثم يأتيه الأمر الرَّباني: “أن تتأهب لتحيَّته وتُحفته”، فما هي لم يُفصح عنها جبرائيل، وعند الإفطار جاءه ميكائيل بطبق مغطى بمنديل استبرق، وإسرافيل بإناء فيه ماء، ولما كشفه وجد عذقاً من رطب، وعنقوداً من عنب، ولكن هل هذه هي التَّحيَّة، والتَّحفة التي أمره الباري أن يتهيَّأ ويتأهب لها؟
أبداً، بل هي التي كانت الصلاة عليه محرَّمة في تلك الفترة حتى يأتي بيت السيدة خديجة التي اشتاقت له كما اشتاق إليها، لأن الله سبحانه: “آلَى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريَّةً طيِّبةً”، وهي التي تُقسم أمها السيدة خديجة صادقة فتقول: “فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء، ما تباعد عني النبي، صلى الله عليه وآله، حتى حسست بثقل فاطمة، عليها السلام، في بطني”، هذه هي المعنية، والمقصودة، وكل تلك مقدمات طبيعية، ونفسية، وروحية، ليكونوا جميعاً على استعداد تام لتلقي هذا العطاء الرَّباني الذي اسمه فاطمة؛ “لأن الله فطمها وشيعتها ومحبيها عن النار” (2).
المصادر:
- بحار الأنوار؛ العلامة المجلسي: ج ١٦ ص ٧٨، والأنوار البهية؛ الشيخ عباس القمي: ص ٥٥
- المصدر نفسه ج43، ص 15، قال رسول الله: “إنما سميت ابنتي فاطمة لان الله عز وجل فطمها وفطم من أحبها من النار”.