الشكّ عكس اليقين، ونقيض التصديق بالحقائق الواقعة، وهذا هو الاتجاه الخاطئ لهذه النزعة النفسية المتمردة لدى الانسان.
والقرآن الكريم يسلط الضوء على هذه النزعة في عديد الآيات والامثلة الواردة عن تجارب الأمم مع الرسالات الإلهية التي جاء بها الانبياء والمرسلين معززين بالأدلة والبراهين القاطعة حول التوحيد، والمعاد، والسنن الإلهية في الحياة، و ركز القرآن الكريم على ثغرتين عانا منها الانسان ـ ومايزال- سببت استفحال هذه النزعة واندفاعها نحو الهاوية:
الاولى: الجهل؛ و اسبابه وعومله المتعددة؛ ربما يكون البعض راضياً بما لديه من مستوى لفهم الامور واستيعاب للحقائق العلمية، فيما هنالك من ينكر حالة الجهل ويدّعي الأعلمية على الآخرين، مما يجعله امام حاجز كبير امام ما يتحدث عنه الآخرون من مسائل وقضايا مهما كانت مدعومة بالأدلة والبراهين، ومهما كان صدقهم ونزاهتهم.
⭐ الاتجاه الخاطئ في الشك ينطلق من الحقائق الملموسة والبراهين الواضحة، فهي طريق من النور الى الظلام، بينما الاتجاه الايجابي الذي ينطلق منه “الشك المنهجي”، كما يعبر عنه العلماء
والسبب الثاني؛ فيعود الى مشكلة داخلية تفقد صاحبها الرصانة والاستقامة والالتزام بمبادئ ثابتة، وهو ما يعبر عن القرآن الكريم بـ “الهوى” فيميل بصاحبه ذات اليمين وذات الشمال تبعاً لرغبات وشهوات معينة، وهو ما يحول دون ايمانه بالقيم والمبادئ الحقّة.
ولكن!
هل هذا يعني أن الشكّ كحالة نفسية، منبذوة بالمرة؟
الاتجاه الخاطئ في الشك ينطلق من الحقائق الملموسة والبراهين الواضحة، فهي طريق من النور الى الظلام، بينما الاتجاه الايجابي الذي ينطلق منه “الشك المنهجي”، كما يعبر عنه العلماء، فهو الذي ينطلق من واقع الغموض والفتن بحثاً عن الحقيقة، والقرآن الكريم الذي طالما أدان المشككين و وعدهم بعواقب وخيمة، هو نفسه يبين لنا كيف أن هذا الشكّ المنهجي قاد نبي الله ابراهيم –وهو أبو التوحيد كما يعبر عنه المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي- نحو اليقين والايمان بالله الواحد الأحد، الحي الذي لا يموت، وكيف أنه جرّب ألوهية الشمس ثم القمر، حتى استراح الى الحقيقة المحضة بأن الله ـ تعالى- هو حالق كل شيء، وهو رب السموات والارض.
⭐ في الوقت الحاضر تمر الأمة بفتن ومحن لم تشهدها طوال تاريخها بسبب تفوق سائر الأمم، ليس في الجانب التقني والعلمي فقط، وإنما في الجانب الثقافي والفكري، وهو الأشد خطورة في السباق الحضاري العتيد
ولم يكتف النبي ابراهيم بهذا الشك المنهجي لنفسه فقط، وإنما حاول ان يفيد الآخرين من ابناء قومه عندما حطم الاصنام وعلق الفأس في رقبة الصنم الكبير داعياً إياهم بسؤاله عمّن حطم سائر الاصنام؛ {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ}. (سورة الانبياء، الآيات:64-65).
في الوقت الحاضر تمر الأمة بفتن ومحن لم تشهدها طوال تاريخها بسبب تفوق سائر الأمم، ليس في الجانب التقني والعلمي فقط، وإنما في الجانب الثقافي والفكري، وهو الأشد خطورة في السباق الحضاري العتيد، حتى باتت أنماط المعيشة، وطرق التفكير والاستنتاج وإصدار الاحكام وفق ما تسطره بعض المؤلفات ومواقع الانترنت.
و بصرف النظر عما تتضمنه الافكار الوافدة من ايجابيات الى جانب السلبيات، فان الإطباق عليها والقطع دونها هو الذي يسبب لنا الجمود الفكري والانغلاق عن الحقائق، في وقت نعرف أن من سمات المرحلة الحضارية الراهنة؛ التبادل والتلاقح والتجارب، وبهذا وصلت الأمم الناجحة الى ما وصلت اليه اليوم.
ليس من الصعب التحقق مما يردنا من افكار و اطروحات ومعرفة صحتها من سقهما، إنما يحتاج الأمر لمواصفات وشروط تتوفر {لمن ألقى السمع وهوشهيد}، ممن يتحمل مسؤولية العلم والمعرفة والحق، ومنها:
- الصبر والتأنّي قبل التبنّي والتصديق، وقد كتب الباحثون في هذا الشأن عن العواقب الوخيمة للتسرّع في تبني الافكار الوافدة مهما كانت ايجابية في ظاهرها، ومهما كانت الحاجة اليها.
- التواضع للعلم والحق، وعدم المكابرة استجابة لرغبات ونزعات نفسية.
- التعقّل الذي يشكف لنا الثغرات والسلبيات، كما يبين لنا الايجابيات ايضاً، وهو ما نجد كثرة المدّعين اليه تحت عنوان: “الموضوعية”، بأن يكون منهج التفكير عقلياً بنسبة كبيرة أكثر مما هو نفسياً تابعاً للهوى والمؤثرات العاطفية.
وفي الختام نقول: لا أحد اليوم يشكّ بحقانية الإسلام، في ما يدعو اليه من التوحيد والمعاد والنبوة والإمامة والعدل، وسائر القيم الاخلاقية والدينية، وقد صدّق بهذا، ليس المسلمون وحسب، وإنما حتى غير المسلمين ايضاً، فمدحوا النبي وأمير المؤمنين، و أشادوا بسيرتهما وأخلاقهما، بل حتى بمنهجهما في الحكم والتعامل مع الناس، ولا أحد يعترض على قيمة من قيم الاسلام، حتى الحجاب عند المرأة رغم الاستفزازات الرخيصة من هنا وهناك، إنما المشكلة في عدم الشكّ بما يردنا من قيم ومبادئ تتقاطع – بعضها- مع قيم الاسلام ومبادئه وأحكامه، واذا نقرأ في تشكيك الأقوام السابقة في غابر الزمان بالرسالات السماوية، عبر آيات الذكر الحكيم، ونرى بالبصيرة فداحة الخسارة والعاقبة في الدنيا والآخرة، فإن هذه الفداحة لا تقل عنها فيما يتعلق بعدم التشكيك بغير ما انزل الله -تعالى- للبشرية من أحكام وقواعد ونظم، كلها في صالح الانسان في حاضره ومستقبله.