يميز الناس في العراق ـ بل وفي جميع البلدان الاسلامية – بين المزارات الدينية، والمواقع السياحية، فالاولى يقصدونها بدوافع معنوية، يعبدون الله فيها ويتوسلون بصاحب المرقد او المقام بقضاء الحوائج والاستغفار، بينما المواقع السياحية فهي أماكن للاستراحة والتخلص من المشاغل والهموم الحياتية لساعات معينة، والاستمتاع بالمناظر الطبيعة والهواء النقي بصحبة أفراد العائلة الاصدقاء مما له من فوائد نفسية واجتماعية.
وفي المكانين يحتاج الناس الى اهتمام مؤسسات الدولة للرعاية والأمن لتوفير أفضل الاجواء للزائرين ممن يقطعون مسافات بعيدة للوصول اليها، فالخدمات مثلا؛ الماء والكهرباء والطرق والصحة، من أساسيات أي مكان يقصده الزائرون أيّاً كان طابعه، كون المشروع يمثل جزءاً من الواجب إزاء المواطن، ولكن!
عندما يتدخل المال، ورجاله في مشاريع كهذه نكون أمام محاذير وخطوط حمراء لئلا يختلط الأمر على المعنيين في الدولة فيسوء الفهم، ثم يسوء الوضع، ويحصل كما حصل في فاجعة في مزار قطارة الامام علي، عليه السلام، في كربلاء المقدسة مؤخراً.
المزار ديني، والناس تقصده بدوافع واضحة، كما تقصد مزارات أخرى مثل مقام الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، في كربلاء وفي مسجد السهلة، والمقامات العديدة المتعلقة بالأئمة والانبياء والأولياء الصالحين وهي كثيرة جداً في العراق، فأول ما يقوم به الزائر؛ قراءة الزيارة المتعلقة بصاحب المقام، ثم الصلاة فيه قربة الى الله ـ تعالى- لقضاء الحوائج، وإن كانت ثمة فسحة من الزمن ربما يمتع النظر بالطبيعة المحيطة بالمقام، ربما ترستم في ذهنه صوراً عن أحوال وأوضاع اصحاب هذه المقامات، وماذا كانوا يفعلونه، والاسباب التي دفعتهم للوصول الى هذا المكان، كأن يكون مروراً منه، او يكون محلاً لمثواهم الأخير.
📌معظم المزارات والمراقد المشرفة عبر التاريخ شُيدت وعُمرت وتطورت بأموال المتبرعين من المؤمنين العارفين بحق صاحب المزار، ولكن عندما يتحول مزار مقدس الى فرصة استثمارية فإن التفكير ينحصر في الربح والفائدة وحسب
وقد عرفنا أن معظم المزارات والمراقد المشرفة عبر التاريخ شُيدت وعُمرت وتطورت بأموال المتبرعين من المؤمنين العارفين بحق صاحب المزار، ولكن عندما يتحول مزار مقدس الى فرصة استثمارية فإن التفكير ينحصر في الربح والفائدة وحسب، فعندما وجد المعنيون أن مقام القطارة في كربلاء أصبحت مقصداً لآلاف الزائرين من كل انحاء العراق وخارجه ايضاً، وجدوا الفرصة سانحة في توسعة المكان ليضم أعداداً أكبر من الزائرين دون النظر الى الجانب العلمي في المسألة، وصلاحية المكان المحاط بكتل صخرية وترابية عالية بما يشبه المضيق، وحسب الصور المنشورة من الجو، فان الانهيار الصخري الاخير استهدف بالتحديد؛ الجزء المشيّد حديثاً ومضافاً الى المبنى الكائن منذ سنوات ماضية.
يبدو أن هذه الحلقة المفقودة هي التي افقدت البعض صوابهم في التعامل مع المزارات الدينية، فالعطاء بدافع معنوي يستهدف إرضاء الطرف المقابل وتلبية طلبه، من مأكل ومشرب ومسكن، وسائر الخدمات دون التفكير بأي مقابل، لأن في ذهنية المعطي صورة الشخص المقدس الذي سيتناول تلك العطاءات لمن يزوره، وليس صورة الشخص الزائر، فربما يكون الزائر طفلاً صغيراً، او شيخاً كبيراً، عالماً، او جاهلاً، فقيراً او غنياً، بل ربما يكون من ملّة او دين آخر جاء يستطلع المكان ليس إلا، ولعل مشاهد مسيرة المشي الى كربلاء في ايام أربعين الامام الحسين، عليه السلام، تكون مثالاً بارزاً لمن “ألقى السمع وهو شهيد”.
إن نداءات الطفل الصغير من تحت الانقاض لأمير المؤمنين، عليه السلام، بـ “ياعلي خلصني” ستكون شهادة إدانة مدوية لكل من فكر ويفكر في استثمار مشاعر الحب الولاء لأهل البيت، عليهم السلام، لمصالح شخصية دفع ثمنها زائرون قضوا نحبهم تحت الانقاض.
رحم الله الشهداء من ضحايا القطارة، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، واللهم الشفاء العاجل لجرحى هذه الفاجعة.