يقول الله ـ تعالى ـ: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
تصور لو انك سافرت الى منطقة جميلة، ووجدت في هذه المنطقة كل ما تحتاجه من وسائل الراحة، والسعادة، وسعدت في تلك السفرة، حينما تعود من هذه السفرة، وتلتقي بمن تحب، ما الذي تصنع؟
أول ما تفعل أنك تدعو صديقك الى ذلك المكان الذي كنت فيه، لما لا يكون ذلك، وقد عدّ الإمام الباقر، عليه السلام، ذلك حق من حقوق المؤمن على اخيه المؤمن، يقول الإمام عليه السلام: أحب أخاك المؤمن وأحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لنفسك”.
📌المؤمن يريد للآخرين ان يسعدوا أيضا حينما يجد أنه حصل على نعمة، أو سعادة، أو هداية
إذا وجدت السعادة والراحة الطمأنينة في مكان، فإنك تحب هذا الأمر لنفسك، وتحبه لغيرك، وهذا الضابطة والقاعدة يجب أن تكون صادقة في كل مناحي الحياة ـ مثلا ـ لو أنك تعرف شيئا، لكن صديقك لا يعرفه، لكنه بحاجة الى هذه المعرفة التي عندك، ولم تخبره بها، ألا يُعد ذلك خيانةً؟
فأنت تدري ـ مثلا ـ ان الذهب يوم غد ستنخفض قيمته، وهو يريد ان يبيع ما لديه من ذهب، فراح وباع ذهبه، وتضرر نتيجة امتناعك عن اخباره عن المعلومة، ألا يعد ذلك خيانة في نظر العرف؟
هذا السبب الذي يجعل المؤمن أن يحمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة الى االله ـ تبارك وتعالى ـ.
ذلك الذي يسأل: لماذا تتدخل في شؤون الآخرين؟ لماذا تدعو الناس الى الهداية؟ اترك الناس وشأنهم! هذا الشخص إما أنه لا يحب الآخرين، أو أنه لا يريد تأديه هذا الحق من حقوق المؤمن على أخيه المؤمن.
منطلق الداعي الى المعروف والناهي عن المنكر الحب، هو حب الآخر؛ فيحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
السعادة والشقاء بيد الإنسان، وربنا ـ سبحانه وتعالى ـ بيّن فيما يرتبط بعاقبة الناس، وانهم في يوم القيامة، إما سعيد وإما شقي، ولا يوجد هناك منطقة وسطى بين السعادة والشقاء، وبيّن أن الذين شقوا إنما شقوا بأفعالهم، وإرادتهم، وكذلك الذين سعدوا كان باختيارهم وارداتهم.
لكن المؤمن لا يكتفي بذلك، فهو يعلم أن السعادة تكون في الجنة وهي الخير الذي لا شرَّ معه أبدا، ويعلم بأن “خير السعادة استقامة الدين” كما يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، ويعلم كما في حديث الإمام الرضا، عليه السلام: “إن السعيد كل السعيد من ختم له عمله بالسعادة والشقي من ختم له عمله بالشقاء”.
ويعلم المؤمن أن الدنيا ممر، لو كان الإنسان فيها بمنتهى الشقاء فإنها ستنتهي، واذا كان فيها في منتهى السعادة فإنها ـ أيضا ـ سنتتهي، لأن السعادة الحقيقية هي التي في الآخرة.
المؤمن يريد للآخرين ان يسعدوا أيضا حينما يجد أنه حصل على نعمة، أو سعادة، أو هداية، سأل رجل الامام الحسين، عليه السلام عن تفسير قوله تعالى {و َأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فقال عليه السلام: “أَمَرَهُ أنْ يُحدِّث بِمَا أنْعَم اللهُ بِهِ عَلَيهِ فِي دِينِه”.
المؤمن الرسالي كالطبيب الشفيق على المرضى، تصور أن طبيبا يؤتى إليه بمريض، وبعد أن يفحصه، يتبين أن المريض بحاجة الى علاج معين، لكن الطبيب لا يعطيه العلاج بل يجامل المريض! فهل يمكن قبول موقف الطبيب؟
📌العراق يحتاج الى مؤمنين رساليين يتحملون مسؤوليتهم، فامواج الفتن تتوالى على هذا البلد
بالتأكيد؛ لا، الطبيب أحيانا يصبح قاسيا من أجل مصلحة المريض، فكما أن الطبيب مسؤول عن بدن المريض، فإن المؤمن الرسالي مسؤول عن دين الناس، فإذا رأى أحداً يسلك طريق الشقاء، فإنه يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ويدعوه الى الله.
لذلك كانت مسيرة الإمام الحسين، عليه السلام، مسيرةَ حياة وإنقاذ، فالإمام الحسين، استنقذ الحر الرياحي من تلك الخاتمة لو بقي عليها.
الإمام الحسين، عليه السلام، حينما وصل الى قصر بني مقاتل، وكان قد نزل قبله عبيد الله بن الحر الجعفي، وهذه الشخصية كانت جبانة، لكن للأسف الشديد نجد كتب العامة ترفع من شأن هذه الشخصية خلافا للواقع.
حينما دُعي عبيد الله بن الحر الجعفي الى الإمام الحسين، عليه السلام، لم يأتِ، فذهب الإمام الحسين بنفسه الى خيمة الحر، وهذا درس أن الإمام باب هداية، وكذلك يجب أن نكوم نحن، فدخل عليه الإمام، وبعد حديث، قال عليه السلام:
“وأنت يا بن الحر فاعلم أن الله عز وجل مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بهاما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت، فإن أعطينا حقنا حمدنا الله على ذلك وقبلناه، وإن منعنا حقنا وركبنا بالظلم كنت من أعواني على طلب الحق.
فقال عبيد الله بن الحر: والله يا بن بنت رسول الله لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنت أنا أشدهم على عدوك، ولكني رأيت شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفا من بني أمية ومن سيوفهم، فأنشدك بالله أن تطلب مني هذه المنزلة، وأنا أواسيك بكل ما أقدر عليه وهذه فرسي ملجمة، والله ما طلبت عليها شيئا إلا أذقته حياض الموت، ولا طلبت وأنا عليها فلحقت، وخذ سيفي هذا فو الله ما ضربت به إلا قطعت.
فقال له الإمام الحسين، عليه السلام: يا بن الحر ما جئناك لفرسك وسيفك، إنما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك ولم أكن بالذي اتخذ المضلين عضدا، لأني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: “من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقهم إلا أكبه الله على وجهه في النار “.
مشروع الإمام الحسين، عليه السلام، مشروع استنقاذ، وهو القائل: “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر”، وقتل الإمام، عليه السلام، لاجل هذا المشروع العظيم، وهو: “ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة”.
المؤمن الرسالي يفكر في استنقاذ الآخرين الى آخر لحظة، لذلك نجد الإمام الحسين، عليه السلام، يذهب الى عمر بن سعد، ويخبره: فقال الحسين، عليه السلام، لابن سعد: ويحك أما تتقي الله الذي إليه معادك؟
أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ يا هذا ذر هؤلاء القوم وكن معي، فإنه أقرب لك من الله.
فقال: له عمر: أخاف أن تهدم داري
فقال: الحسين عليه السلام: أنا أبنيها لك
فقال: عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي
فقال: عليه السلام: أنا أخلف عليك خيرا منها من مالي بالحجاز.
فقال: لي عيال أخاف عليهم
فقال: أنا أضمن سلامتهم. ثم سكت فلم يجبه عن ذلك، فانصرف عنه الحسين، عليه السلام، وهو يقول: مالك، ذبحك الله على فراشك.
فهو كان بذلك يريد استنقاذه، يقول الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: “يا علي لأن يهدي الله بك رجلا احب اليك مما طلعت عليه الشمس”.
يقول الإمام الحسين، عليه السلام: “من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا حتى ارشده وهداه يقول الله له: يا ايها العبد المواسي: أنا اولى بالكرم ملائكتي اجعلوا له في الجنان بعدد كل حرف عمله ألف ألف قصر وضموا اليها من يليق بها من سائر النِعم”. فنحن نطعم الطعام، ونسقي الناس، وهذا شيء ممتاز، لكن هداية الناس أهم، يقول الإمام: عجبت لمن يفكر في مـأكلوه كيف لا يفكر في معقوله”.
ولذا لابد من هداية الناس وتوعيتهم، سواء فيما يرتبط بعقيدتهم، أو الاحكام الشرعية، او ما يتربط بالوعي.
قال الحسين بن علي صلوات الله عليهما لرجل: أيهما أحب إليك؟ رجل يروم قتل مسكين قد ضعف أتنقذه من يده، أو ناصب يريد إضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى؟
قال: بل إنقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب إن الله تعالى يقول: من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. أي ومن أحياها وأرشدها من كفر إلى إيمان فكأنما أحيا الناس جميعا من قبل أن يقتلهم بسيوف الحديد.
لذلك فالعراق يحتاج الى مؤمنين رساليين يتحملون مسؤوليتهم، فامواج الفتن تتوالى على هذا البلد؛ فتراه يأتي صرخي، وآخر يماني..، الى بقية الفتن الأخرى.
📌 مشروع الإمام الحسين، عليه السلام، مشروع استنقاذ، وهو القائل: “إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي
ولذا على الخطباء والمبلغين، واصحاب المواكب، والهيئات، أن يجعلوا الحسين، عليه السلام، باباً واسعاً للهداية، فمن خلال هذا الباب يدخل الناس الى التشيع والهداية، والى الالتزام بأحكام الله، والى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أحد الخطباء في نيويورك كان يلقي محاضرة في الجامعة ايام شهر محرم، والحضور متنوع، يقول هذا الخطيب: كان حديثي عن الحر، فرأيت احدهم يبكي الى ما بعد المحاضرة.
يقول هذا الرجل: انا استاذ في الدراسات الاسلامية، لكنني لم اسمع بالحر؟ فمن هو؟
يقول الخطيب: أن هذا الرجل عنده منحنى صوفي، فتذكرتُ كلام السيد المرجع المدرسي، أن نعطي الصوفية “الصحيفة السجادية”.
فأعطيته الصحيفة السجادية، فقلت: هذا ابن الحسين، الذي كان الحر معه.
جاء الرجل في اليوم التالي وقال: هذا الكلام من السماء ـ أي الصحيفة السجادية ـ وليس كلاما لبشر.
وحضر الرجل بعدها واعتنق التشيع، وكان اسمه ديفيد، لكنه غيره، واليوم هذا الرجل هو استاذ الدراسات الاسلامي في إحدى الجامعات في نيويورك.
في ختام المقال يجب ان نشير نقطتين:
- الأولى: نحتاج الى التسلح
الانسان الذي يريد ان يكون سبباً لهداية الآخرين يجب أن يتسلح؛ فيقرأ، ويفكّر، ويناقش، ويتلحق بمنتدى ثقافي، او بمجموعة رسالية مؤمنة يفكرون في شؤون الامة، والازمات التي يعيشها المجتمع، فيعرف الصواب أين، أما إذا كان المؤمن غير متسلح، أو انه جاهل كما يمثّل الشاعر: طبيبٌ يداوي الناس وهو عليل.
الثانية: لابد للمؤمن ان يكون مستعداً للتضحية، بأي مستوى كانت؛ سواء التضحية بالوقت، او بالجهد، او المال، او العرض، فالمهم عنده هو التركيز على الهدف الذي يجب أن يصل إليه.
مسلم بن عقيل كانت ينظر الى هدفه ورسالته، وإذا عدنا الى قراءة ذلك الظرف الذي كان فيه مسلم بن عقيل، فقد كان بإمكانه الخروج من الكوفة، لكنه يعرف أنه كان صاحب قضية، ورسالة يجب أن يؤديها.