استشهد الإمام محمد الجواد، عليه السلام، في آخر ذي القعدة الحرام سنة 220هـ في بغداد
- مقدمة نورانية
الإمام نور من أنوار الله الهادية إلى الحق، هذا ما ورد في رواية الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، الذي قَالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى ـ: {يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمٰانِهِمْ): أَئِمَّةُ اَلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ تَسْعَى بَيْنَ يَدَيِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَبِأَيْمَانِهِمْ حَتَّى يُنْزِلُوهُمْ مَنَازِلَ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ}، فالإمام نور في الدنيا والآخرة وذلك لأن الله خلقهم من نور ذاته ليكونوا قادة العباد، وساسة البلاد.
والإمام التاسع من أئمة المسلمين محمد بن علي الجواد، عليه السلام، هو من أولئك الأنوار الذي تميَّز عن آبائه الأطهار أنه كان بحق معجزة الإمامة في عصر الدَّهاء العباسي، وهو عصر عبد الله المأمون داهية بني العباس وعالم الخلفاء والحكام فيهم، الذي استخدم ذكاءه ودهاءه لتثبيت كرسي مملكته وحكمه وخلافته المضطرب، الذي كان يسبح بالدماء من أبناء هذه الأمة لا سيما أخاه الأمين والآلاف من المسلمين بالفتنة والانقسام الذي قاده لخمس سنوات أهلكت الأخضر واليابس، فكرهته الأمة وقامت عليه من أقطارها فلم يجد منقذاً له إلا حبل الإمامة المتين، فاستنجد بإمام المسلمين علي بن موسى الرضا، عليه السلام، وجاء به بحيلة من المدينة المنورة إلى مرو ثم إلى خراسان فريداً وحيداً وفلم يأخذ معه ولا حتى وحيده الذي كان لا يتجاوز الأربع سنوات من عمره وهو الإمام محمد الجواد، عليه السلام.
📌 ومَنْ يدرس حياة الإمام محمد الجواد، عليه السلام، حقيقة يأخذه العجب امن غزارة علمه وفضله
فبايعه بولاية العهد، وضرب السِّكة الذهبية والفضية باسمه الشريف ونودي له بولاية العهد في آلاف المنابر في بلاد المسلمين من سور الصين شرقاً إلى أقصى المغرب العربي فاستقرَّ الكرسي واستتبَّ الحكم فدسَّ إليه السَّم فقتله ومضى إلى ربه شهيداً غريباً في طوس حيث مدفنه وغربته هناك، وعاد إلى بغداد ليمارس حكمه وطغيانه فيها.
- نور الإمام محمد الجواد عليه السلام
فقام مقامه ولده ووحيده الإمام محمد الجواد، عليه السلام، ولم يتجاوز السادسة من عمره فأنى لطفل في ذلك العمر أن يسدَّ مسد، ويأخذ مكان الإمام علي بن موسى الرضا، عليه السلام، ولي العهد الذي صار اسمه على كل لسان في الدولة الإسلامية؟
إلا أن نور الإمامة فعل فعله بإثبات أحقية الإمام الجواد، عليه السلام، وحضوره حتى في قلب البلاط العباسي فكان يراهن عليه عبد الله المأمون شخصياً بل ويتحدَّى به العباسيين جميعاً وأقطاب الدولة وعلماءها لما يعلم منه من أنه ربيب الوحي، ورضيع الرسالة، وأنه من قوم زقوا العلم زقاً، ولم يأخذوه من أحد، ولم يتعلموا من غيرهم كما هو واضح ومشهور في التاريخ فالإمام الجواد، عليه السلام، تركه والده وهو ابن أربع سنوات فمَنْ علَّمه، وفقَّهه، ورعاه حتى بلغ ذلك المبلغ من العلم والفضل والشأن بحيث يُجيب في مجلس واحد عقده له المأمون عن أربعين ألف مسألة؟
فكان عبد الله المأمون الذي خبر علم وشجاعة وإمامة الإمام الرضا، عليه السلام، الذي أخرس أرباب الأديان، وأصحاب المقالات، والفلسفات، والدهريين، والكتابيين، وغيرهم بأجوبة تنمُّ عن بحر خضم من العلم حتى عُرف الإمام الرضا، عليه السلام، بعالم آل محمد، صلى الله عليه وآله، وولده الجواد وريثه في كل شيء لا سيما نوره، وعلمه، وأدبه، وفضله، لذا قرَّبه وتقرَّب إليه حتى خطبه لابنته أم الفضل وزوَّجها له بمهر بسيط جداً كمهر جدته فاطمة الزهراء، عليه السلام، 500 درهم فقط وهو الذي تزوَّج في ذلك العصر والحين بزواج أسطوري من بوران ابنه الفضل وزيره الذي وصفه المؤرخون بأعظم زواج في التاريخ للبذخ والترف الذي كان فيه.
- الإمام الجواد، عليه السلام، النور المبين
وهذا الوصف ورد للقرآن الكريم أيضاً في آيات الله، ولا غرو في ذلك فلله كتابان أحدهما صامت هو القرآن الكريم، والآخر ناطق وهو الإمام المبين الذي يُفسِّر ويؤول القرآن والكتاب الصامت في واقع الأمة وحياتها، وذلك لأن لله حجتان على هذا الإنسان؛ رسول من الخارج، والعقل من الداخل، فالرسول عقل خارجي للإنسان، والعقل رسول داخلي له حتى يهديه الله لسواء السبيل، فالعقل دون الرسول لا يمكن أن يصيب دين الله، والرسول دون العقل لا يمكن ويسقط التكليف عن المجنون والفاقد عقله كما هو معروف.
📌 نور الإمامة فعل فعله بإثبات أحقية الإمام الجواد، عليه السلام، وحضوره حتى في قلب البلاط العباسي فكان يراهن عليه عبد الله المأمون شخصياً بل ويتحدَّى به العباسيين جميعاً وأقطاب الدولة وعلماءها لما يعلم منه من أنه ربيب الوحي
وهذا ما جاء في وصية الإمام موسى الكاظم، عليه السلام، الرائعة لهشام بن الحكم حيث يقول: “يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ“، فالعقل نور داخلي، والرسول والإمام نور خارجي فيُبصر الإنسان ببصيرته، ويسير بعقله المنار بأنوار الوحي والرسالة فيهتدي إلى الصراط المستقيم بالكتاب الكريم، والإمام المبين.
ومَنْ يدرس حياة الإمام محمد الجواد، عليه السلام، حقيقة يأخذه العجب العجاب من غزارة علمه وفضله وإذا أعمل عقله فإنه سيهديه إلى أنواره والإيمان بإمامته على أمة جده المصطفى، صلى الله عليه وآله، بلا شك ولا ريب، إذ كيف لفتى في العاشرة من عمره أن يدخل في مجلس الخليفة العباسي عبد الله المأمون بكل أبهته، وسطوته، وهيبته، ويتحدى أهل مملكته وعلماءه حميعاً ويفوز عليهم جميعاً، ولا يخرج حتى يعترف الجميع بعلمه وفضله ويأخذون بخدمته.
ألا تكفي تلك المسألة التي ألقاها عليه في ذلك المجلس قاضي القضاة في الحكومة العباسية بحضور الخليفة، والحاشية من البيت العباسي والقادة وكل أصحاب الشأن في البلاط المأموني حيث جمعهم وتحدى بهم هذا الفتى ابن الرِّضا، عليه السلام، والرواية تقول: قَالُوا يَا أَمِيرَ (اَلْمُواطنِينَ) هَذَا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ إِنْ أَذِنْتَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَا جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ اَلْمَأْمُونُ: يَا يَحْيَى سَلْ أَبَا جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي اَلْفِقْهِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ فِقْهُهُ، فَقَالَ يَحْيَى: يَا أَبَا جَعْفَرٍ أَصْلَحَكَ اَللَّهُ، مَا تَقُولُ فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْداً؟
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: “قَتَلَهُ فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ، عَالِماً أَوْ جَاهِلاً، عَمْداً أَوْ خَطَأً، عَبْداً أَوْ حُرّاً، صَغِيراً أَوْ كَبِيراً، مُبْدِياً أَوْ مُعِيداً، مِنْ ذَوَاتِ اَلطَّيْرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، مِنْ صِغَارِ اَلصَّيْدِ أَوْ مِنْ كِبَارِهَا، مُصِرّاً عَلَيْهَا أَوْ نَادِماً، بِاللَّيْلِ فِي وَكْرِهَا أَوْ بِالنَّهَارِ عِيَاناً، مُحْرِماً لِعُمْرَةٍ أَوْ لِلْحَجِّ”. قَالَ: فَانْقَطَعَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ اِنْقِطَاعاً، لَمْ يَخْفَ عَلَى أَهْلِ اَلْمَجْلِسِ، وَأَكْثَرِ اَلنَّاسِ تَعَجُّباً مِنْ جَوَابِهِ، حقيقة هذه معجزة بحدِّ ذاتها فكيف إذا سمعت وعرفت الجواب عنها؟
والعجب ليس بهذا فقط ولك بقية الرواية تقول: فَقَالَ لَهُ اَلْمَأْمُونُ: فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَسْأَلَ يَحْيَى عَنْ مَسْأَلَةٍ كَمَا سَأَلَكَ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: “أخبرني عَنْ رَجُلٍ نَظَرَ إِلَى اِمْرَأَةٍ فِي أَوَّلِ اَلنَّهَارِ فَكَانَ نَظَرُهُ إِلَيْهَا حَرَاماً عَلَيْهِ، فَلَمَّا اِرْتَفَعَ اَلنَّهَارُ حَلَّتْ لَهُ، فَلَمَّا زَالَتِ اَلشَّمْسُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ اَلْعَصْرِ حَلَّتْ لَهُ، فَلَمَّا غَرَبَتِ اَلشَّمْسُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ وَقْتُ اَلْعِشَاءِ اَلْآخِرَةِ حَلَّتْ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ اِنْتِصَافُ اَللَّيْلِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا طَلَعَ اَلْفَجْرُ حَلَّتْ لَهُ، مَا حَالُ هَذِهِ اَلْمَرْأَةِ، وبِمَا ذَا حَلَّتْ لَهُ وحَرُمَتْ عَلَيْهِ“. فَقَالَ يَحْيَى: لاَ أَعْرِفُ ذَلِكَ.
هذا من مخزن العلم اللَّدني للإمام الجواد، عليه السلام، الذي فاق كل الخلق في عصره الذي كان هو فيه حجة الله على الخلق، وهذا ما يعرفه عبد الله المأمون جيداً إلا أنه طاغية لا يُعير أي أهمية لما يعلم فهو كبلعم بن باعورا، أو السَّامري الذي آتاه الله علماً فاستخدمه لضلال بني إسرائيل، وما فائدة العلم من دون التقى، ورحم السيد الأمين الذي قال:
لو كان في العلم دون التقى شرف *** لكان أشرف خلق الله إبليس
- نور الإمام الجواد، عليه السلام، الذي أطفأه العباسيون
هذه العائلة ـ بني العباس ـ التي عاشت متذبذبة ما بين الرسول الأكرم والإسلام، وبين مصالحها الخاصة، فكانوا (رِجْلاً في الفلاحة وأخرى في البور) كما في المثل العربي لدينا، واستمروا على ذلك إلى أن حانت لهم الفرصة في الثورة التي قامت باسم الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، وآل محمد فوثَّقوا صلتهم بأبي سلمة الخلال، وأبو مسلم الخراساني ووجدوها فرصة حين رفض الإمام الصادق، عليه السلام، الخلافة والحكم وبشَّرهم بها فقفزوا عليها وتمكنوا منها بصوت وهيبة آل محمد، وليس بقوتهم، ولا تدينهم، ولا براعتهم في السياسة والحكم.
وكان عبد الله المأمون مميزاً فيهم لأنه كان قد تتلمذ على أبناء هذه المدرسة الشريفة وتعلم منها الأصول التي كان يُحاجج بها، فيفوز ويفلج على خصومه لاسيما العباسيين منهم، ولكن ما أن أغمض عينيه عن هذه الدنيا حتى راح بنوه وإخوته حياكة المؤامرة للخلاص من خصمهم الشاب الإمام محمد الجواد، عليه السلام.
قال المسعودي في مروج الذهب: “لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبّرون، ويعملون الحيلة في قتله، فقال جعفر لأُخته أُمّ الفضل، زوجة الإمام الجواد، عليه السلام، لأنّه وقف على انحرافها عنه، وغيرتها عليه لتفضيله، عليه السلام، أُمّ أبي الحسن، الإمام علي الهادي، عليه السلام، ابنه عليها، أي على أُمّ الفضل، فجعلت السمّ في عنب، وناولته للإمام، ثم استطرد المسعودي قائلاً: “لقد ندمت أم الفضل بعد هذا العمل ندماً عظيماً، وبكت بكاءً شديداً، ولما أكله بكت، فقال: “لم تبكين ليضربنك الله بفقر لا يجبر وبلاء لا يستر”، فبليت بعلة أنفقت عليها جميع ما تملكه”.
هكذا أطفأ الحقد العباسي هذا النور المتألق، والقرآن المبين الناطق، في آخر شهر ذي القعدة 220هـ في غربته في بغداد فدفن في جوار جده الإمام المظلوم أسد بغداد الإمام موسى بن جعفر، صلوات الله عليهما وآلهما الطيبين الطاهرين
عظم الله أجركم يا مؤمنين بهذا الإمام الهمام والنور المبين.