من خلال تصفحي السريع لوسائل التواصل الاجتماعي وجدت مبادرة رائعة من قبيلة بني لام، هي من العشائر الكبيرة في العراق، تدعو الى عدم إعداد موائد الطعام في المآتم بعد مجلس الفاتحة، و أوصى البيان الصادر من هذه العشيرة المعزين من أهل المنطقة بمغادرة مجلس الفاتحة فوراً لتفادي إحراج صاحب المأتم، مستثنياً الضيوف من خارج المدينة، مما يستوجب على صاحب المأتم تقديم واجب الضيافة لهم فقط، وإن تكون الفاتحة ليوم واحد لتقليل التكاليف عن كاهل ذوي المتوفي.
أن تصدر مبادرة من هذا النوع، ومن العشائر، لهو مدعاة للتفاؤل والأمل أولاً؛ ثم مدعاة للفخر والاعتزاز بوجود دعامة اجتماعية تأخذ على عاتقها التجديد والتقويم لما يضمن الحقوق والكرامة والعلاقات الاجتماعية السليمة، لاسيما في وقت يبحث المجتمع عمّن يرشده الى الطريق الصحيح.
📌 أن تصدر مبادرة من هذا النوع، ومن العشائر، لهو مدعاة للتفاؤل والأمل أولاً؛ ثم مدعاة للفخر والاعتزاز بوجود دعامة اجتماعية تأخذ على عاتقها التجديد والتقويم
في نفس الوقت الذي يسود الحديث عن أعمال سلبية من بعض العشائر نابعة من تبنيات ثقافية قديمة تحولت لدى البعض الى قوانين ملزمة، فيما يتعلق بالزواج، والقضاء، و مفهوم الحرية بشكل عام، فان الحقيقة على الارض أن العشائر اليوم تمثل الكيان الأكثر تجسيداً ووجوداً على ارض الواقع، فهي موجودة في الاسرة، وفي السوق، وحتى الدوائر الحكومية، كما تحتفظ بعلاقة ودية وتاريخية مع الحوزة العلمية وعلماء الدين، وقد حظيت بتكريم الاوساط الاجتماعية والدينية بالتكريم لدورها في حفظ الأمن والاستقرار عند غياب الدولة والقانون كما حصل في الفترة التي اعقبت الاطاحة بنظام صدام وانهيار جهازه الامني.
وهذا يدعونا للحديث عن أدوار اخرى لها مدخلية في الحياة الاجتماعية بإمكان العشائر اتخاذ مواقف حاسمة في سياق التقويم او الارشاد او حتى التغيير بشكل كامل، مثل؛ إطلاق العيارات النارية في مناسبات الافراح والاحزان، ومحاولة فضّ النزاعات والخلافات الاجتماعية بالطرق السلمية، و بالاحتكام الى القانون، وإن ثبت عدم جدواها ـ كما يؤكد الكثير- يأتي دور المؤسسة الدينية (الحوزة والعلماء) لتكون السند للعشيرة في إعطاء كل ذي حقٍ حقه، على قاعدة: “لا تَظلِمون ولا تُظَلَمون”، التي سنّها رسول الله، صلى الله عليه وآله.
مما يبعث على الأسف التعريف المتداول للعشيرة على أنها مصدر قوة ومَنَعة، فمن لديه عشيرة معروفة ذات شأن وشوكة، يعش آمناً من أي مكروه، بل يكون قادراً على استيفاء حقه في أية قضية تحصل له.
هذه القوة المسنودة دائماً بالسلاح، من شأنها ان تتحول الى أداة للطغيان واستضعاف الآخرين من البعض للتخلص من الإدانة والمسؤولية في جريمة معينة، او خطأ يرتكبه بحق أشخاص من شريحة أقل شأناً في المجتمع، في حين قوة العشيرة يفترض ان تكون في سبيل نشر المودة والتلاحم والتكافل بين افراد المجتمع، وتكون بوجه كل من يهدد السلم المجتمعي، او تسوّل نفسه انتهاك حرمات وحقوق الآخرين، فيما يتعلق بالمرأة، والطفل، والتعاملات في الاسواق، وفي حوادث السير وغيرها. وقد أثبتت التجارب أنه بالقدر الذي يتجسد فيه الدور الايجابي للعشيرة في كيان المجتمع والامة، نكون أكثر أماناً من دسائس السياسة والحكام واصحاب المصالح الاقتصادية في الداخل والخارج، فالمجتمع المتواصي بالحق، كما حصل في المبادرة الاخيرة، يكون اكثر تأثيراً على القرار السياسي، واكثر حضوراً في تقرير مصيره بنفسه.