دخل ضرار على معاوية بن أبي سفيان، وكان ضرار من أقرب الناس إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، علیهما السلام، فقال معاوية: يا ضرار صف لي عليًا.
قال ضرار: اعفني من ذلك، فقال معاوية: أبيت عليك إلا أن تصف لي عليًا، والله لا أدعه حتى تصفه لي.
قال: إن كنت تريد ذلك فاسمع مني: «كَانَ وَ اللَّهِ بَعِيدَ الْمُدَى شَدِيدَ الْقُوَى يَقُولُ فَصْلًا وَ يَحْكُمُ عَدْلًا يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ وَ تَنْطِقُ الْحِكْمَةُ عَلَى لِسَانِهِ يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَ زَهْرَتِهَا وَ يَأْنَسُ بِاللَّيْلِ وَ ظُلْمَتِهِ كَانَ وَ اللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ طَوِيلَ الْفِكْرَةِ يُقَلِّبُ كَفَّهُ وَ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا قَصُرَ وَ مِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ كَانَ وَ اللَّهِ مَعَنَا كَأَحَدِنَا يُدْنِينَا إِذَا أَتَيْنَاهُ وَ يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ وَ كَانَ مَعَ دُنُوِّهِ لَنَا وَ قُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً لَهُ فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ النَّظِيمِ يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ وَ يُحِبُّ الْمَسَاكِينَ لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ وَ لَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ عَنْ عَدْلِهِ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ وَ غَارَتْ نُجُومُهُ مُمَاثِلًا فِي مِحْرَابِهِ قَابِضاً عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ وَ يَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَ كَأَنِّي أَسْمَعُهُ وَ هُوَ يَقُولُ يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَانَ حِينُكِ قَدْ أَبَتُّكِ ثَلَاثاً عُمُرُكِ قَصِيرٌ وَ خَيْرُكِ حَقِيرٌ وَ خَطَرُكِ غَيْرُ كَبِيرٍ آهِ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَ بُعْدِ السَّفَرِ وَ وَحْشَةِ الطَّرِيقِ». (1)
يقول الراوي: فوكفت دموع معاوية على لحيته وجعل يستبلها بكمه واختنق القوم جميعاً بالبكاء وقال: هكذا كان أبو الحسن يرحمه الله.
في هذه الصفحة التي سجّلها ضرار، تحدث فيها عن ثلاثة أبعاد لشخصية أمير المؤمنين علي: البعد القيادي، والبعد الاجتماعي، والبعد الروحي.
-
البعد الأول: البعد القيادي
كيف كان علي قائدًا؟
وما هي مقومات الشخصية القيادية لعلي بن أبي طالب؟
المقوِّم الأول: بعيد المدى؛ يقول: «كان والله بعيد المدى»، أي إنه يفكّر لأبعد مدى، صاحب بصيرة، كما قال في الآية الكريمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} (سورة يوسف، الآية108)، فان صاحب البصيرة هو من يفكر في المستقبل، ومن ينظر إلى المديات البعيدة، وهو الذي ينظر إلى العواقب، ويفكر في مستقبل الأمة.
المقومَّ الثاني: شديد القوى، وهي من صفات جبرئيل، عليه السلام، كما يصفه القرآن الكريم بأنه شديد القوى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (سورة النجم، الآية4-5)، و ضرار يصف أمير المؤمنين بهذا الوصف أيضاً فما المقصود بذلك؟
شدّة القوة؛ عبارة عن سيطرة العقل على كل فصائل وحركات وخواطر الإنسان، فمن الصعب جداً على الإنسان أن يصلي لربه خمس دقائق دون أن يلتفت إلى سوى الله! بينما شديد القوى هو من يستطيع أن يستجمع جميع قواه فيما يرغب، وهذا عبارة عن قوة العقل وسيطرته على الفكر والنفس وجميع الإنفعالات والخواطر.
المقوّم الثالث: قوله فصل وحكمه عدل؛ ومن يقرأ حياة أمير المؤمنين، عليه السلام يجد هذه الصفة؛ فكان ذا إرادة حازمة، و ذا عزم ثابت لا يلين، ولا ينخذل، ولأنه كذلك، لذلك عقّب ضرار الوصف بقوله: «يقول فصلًا ويحكم عدلًا»، لأنه شديد القوى، يقول فصلًا ويحكم عدلًا، لا يخرج من شفتيه إلا الحق، ولا يسير إلا على طبق الحق، وكما قال الرسول : «عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ يَدُورُ حَيْثُمَا دَارَ»، (2) بل هو الحق ، يقول فصلًا ويحكم عدلًا، هو مظهر العدالة، وهو العدالة التي تتجسّد على الأرض، لا يداري قريباً، ولا يداري صديقاً ولا يخاف بعيداً، يمشي على طريق الحق وحده، وأجلى مثال لذلك ما كان بينه وبين عقيل الذي طلب منه زيادة في العطاء فلم يزده.
المقوّم الرابع: قوته في خدمة الضعفاء؛ يقول: «لا يطمع القوي في ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله»، فلا القوي يطمع أن يحيد عن الحق لقوته، ولا الضعيف ييأس من عدله، كما نقرأ في زيارته عليه السلام: «الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ عِنْدَكَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ حَتَّى تَأْخُذَ لَهُ بِحَقِّهِ وَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ عِنْدَكَ ضَعِيفٌ ذَلِيلٌ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ وَ الْقَرِيبُ وَ الْبَعِيدُ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ». (3)
-
البعد الثاني: البعد الاجتماعي
كيف كانت شخصية أمير المؤمنين، عليه السلام، الاجتماعية؟
وهل كانت شخصية منغلقة، أو منعزلة؟
يصف ضرار لنا البعد الاجتماعي لشخصية أمير المؤمنين، ويقول: «يعظّم أهل الدين، ويتحبّب إلى المساكين»، إذا جاءه المتدين احترمه ولو كان فقيراً، أو كان رثّ الملابس، فهو يحترمه لدينه؛ لأنه أكرم عند الله -تعالى- وهو القائل: {أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات، الآية13)، فتعظيم أهل الدين تعظيمٌ للدين نفسه، ويتحبب إلى المساكين فيغدق عليهم رحمته، وعطفه، وحنوّه، وهو القائل: «أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ وَأَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ؟».
فكان، عليه السلام، بنفسه يزور المساكين، ويحمل الطعام على ظهره، وكان بنفسه يداوي مرضاهم، ويتفقد أحوالهم؛ فكان ـ كما يصف ضرارـ «يدنينا منه إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه»، إن خلق التواضع، هو خلق الرحمة، وهي من أخلاق رسول الله، صلى الله عليه وآله، فكان عليٌ مثالاً لرسول الله، الذي كان خُلقه القرآن.
ولم تكن تلك الأخلاق تنقص من شأنه: «كان مع دنوّه منّا، وحنوّه علينا، لا نكلمه؛ هيبةً له، فإذا تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم».
-
البعد الثالث: البعد الروحي
لن تلد الأرحام مناجياً لربه كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فكان قطعة من حب الله والمناجاة له، يكفي أن نقرأ ما ورد عنه من الأدعية والمناجاة لنرى كيف ينقطع إلى الله حين يقول: «إِلَهِي هَبْ لِي كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِلَيْكَ وَ أَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ وَ تَصِيرَ أَرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ».
وإلى ذلك يشير ضرار حين يصف أمير المؤمنين، عليه السلام، بما شاهده في بعض لياليه فيقول: «لَقَدْ شَاهَدْتُهُ لَيْلَةً فِي مِحْرَابِهِ وَ قَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ وَ هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي قَابِضاً عَلَى لَمَّتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ وَ يَئِنُّ أَنِينَ الْحَزِينِ»، ولذلك تجده، عليه السلام، يأنس بالليل ووحشته لما يجده في حلاوة المناجاة مع ربه والقرب منه -تعالى-.
فإذا كان أمير المؤمنين، عليه السلام، يناجي ربه قائلاً: «آهٍ من قلة الزاد، وبُعْد الطريق، ووحشة الطريق»، فهو يذكرنا بذلك اليوم الذي يصفه الرب تعالى في قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (سورة الانعام، الآية94)، فسوف نسعى إليه فرادى، كما خلقنا أول مرة.
ولذا؛ لا غرابة أن نرى مدح أمير المؤمنين، عليه السلام، على لسان القاصي والداني، العدو والصديق، فهو الذي اتفقت الإنسانية على مدحه، فحتى معاوية يبكي عند سماع صفات أمير المؤمنين، وهو الذي ابتدع لعنه، عليه السلام، على المنابر، لكن الغريب أن لا يقتدي به شيعته!
فأين نحن عن دعوته، عليه السلام، حين قال: «أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طَعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ». (4)
ونحن اليوم مدعوون للاقتداء بأمير المؤمنين، عليه السلام، في أبعاده الثلاثة، ليكون لنا إماماً ونكون له شيعة.
————-
1- كنزالفوائد، ج: 2 ص : 160 وفي نسخة أخرى: أعلام الدين ص: 150
2- بحارالأنوار، ج: 10 ص: 432.
3- الكافي ج : 1 ص : 454.
4- نهج البلاغة، ص: 194.