يتمثل التشريف الإلهي بوجوب الصيام على المؤمنين سابقاً ولاحقاً، إذ قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة، الآية 183)، إذ فرض الله سبحانه على المسلمين مجموعة من الأحكام العبادية، ومن ضمنها فريضة الصيام، إلاّ أن هذا الفرض يختلف كثيراً عن بقية الأحكام العبادية من حيث الجانب النظري و العملي، فثمة قيم معرفية في كلا الجانبين؛ وهما كما يأتي:
-
أثر القيم المعرفية في الجانب النظري
هنالك قيم معرفية عديدة يجدر بنا الوقوف عندها؛ أهمها ما يلي:
أولاً: القيم الفكرية
الوقوف على شرع الله تعالى، من خلال معرفة أحكامه، وما تدل عليه من حلال أو حرام، او مكروه او مستحب، أو مباح؛ من الخطوات المهمة نحو التقدم العلمي، إذ يكون التركيز على المنظومة المعرفية في الفقه الإسلامي، وهو ما يحقق القيمة العليا في الإسلام، ألا وهي قيمة العلم في الشريعة الإسلامية، وأهميته البالغة في تقدم المجتمع الإسلامي وبناء الحضارة الإنسانية، إذ يحتوي على توجّه فكري واجتماعي في عالم المعرفة؛ لأنه من الأحداث الإلهية التي لها صدى واسع وعميق في نفوس المؤمنين، مما يقتضي توجه الأنظار صوب الحدث الكبير، لأننا نُلاحظ توجه المجتمع بحكم فطرته، صوب الاهتمام بالقضايا الاجتماعية ذات الأثر الكبير. فنرى المجتمع غالباً ما يهتم بكيفية صناعة التغيير السياسي من خلال الانتخابات، و يركز كل اهتمامه على هذه المسألة في أغلب دول العالم، وهكذا؛ نلاحظ ما يفعله البعض من بث الاشاعات الكبيرة لاستقطاب اهتمام المجتمع واشغال العقلية الاجتماعية بتوجه معيّن، لذا تستخدم الشريعة المقدسة هذا النمط من الاحكام الاجتماعية ليشكل حكم الصيام على المؤمنين عنصر إثارة للعقل الاجتماعي ليستحوذ على اهتمام الغالبية العظمى من المؤمنين، ويكون شهر رمضان من الأحداث العظيمة التي تتكرر كل عام على المجتمع الإسلامي، فيستشعر المؤمنون في هذا الشهر الفضيل أهميته الفكرية حسب متطلبات العصر الراهن، وما يشهده المجتمع من متغيرات وتطورات، فيدركون بذلك عنصر ثبات الأحكام الشرعية ومرونتها، أو تغيّر حكمها عند تغيّر الموضوع.
هذا الجانب يشكل قيمة فكرية ومعرفية كبيرة في أن يمتلك المسلمون ثقافة المعرفة بأحكام الشرع الحنيف، وايضاً؛ الوعي والانفتاح العقلي على المنظومة الفقهية، ومسائلها المتعددة، كل ذلك يشكل رصيداً معرفياً لمجتمع حضاري متقدم، يُسهم في توفير الحصانة الفكرية للمسلمين، والسير على منهاج ثقافي محدد، مما يؤدي إلى عدم الانجرار خلف الثقافات المنحرفة عند بعض المجتمعات.
إضافة إلى ذلك؛ هناك قيمة فكرية مركزية في حياة الإنسان، وهي قيمة التفكّر والتدبر، إذ يُعد الصيام من الواجبات التي تحتوي على أبعاد مختلفة من المعرفة؛ أحدها التدبّر في حِكمة تشريع هذه الفريضة في أيام معدودات من السنة، والتدبّر في أحكامها، وآدابها وفوائدها؛ فردياً واجتماعياً، وهذه الخاصّية توفر عنصر الوعي إزاء الفعل الاجتماعي في تنفيذ أمر الله -تعالى-، وذلك يُسهم في تحقيق أحد أهم أهداف الشريعة المقدسة، وهو الوعي العقلي بكل ما يقوم به الإنسان من فكر أو عمل في حياته، إذ أكد القرآن الكريم فكرة التدبّر والتفكّر، وأشار إليها ودعا المؤمنين إليها، إذ قال سبحانه: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} (سورة المؤمنون، الآية 68)، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة ص، الآية29) وهناك العديد من الآيات التي تدل بمضمونها على أهمية التدبّر والتفكّر والتعقّل، ولعل أهمية هذا يكمن في أن العملية الفكرية التي تساعد الانسان للوصول إلى نتائج سليمة، ومقاصد مطلوبة، وقيم رفيعة لأحكام الله تعالى، وذلك ما يؤكد أهمية الوعي الجماهيري للمسلمين ويجعلهم في حالة وعي دائمة.
ثانياً: القيم الإيمانية والروحية
إذ يشكّل الإيمان باللهِ ورسلهِ وكتبهِ محور رسالات السماء لبني البشر، قال تعالى: {ِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (سورة الفتح، الآية8-9) وقال عزّ من قائل: {َمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (سورة الحديد، الآية8) وقال أيضاً: {َمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة المجادلة، الآية4)، هذه الآيات الكريمة وغيرها الكثير، تؤكد أن القرآن الكريم كتاب الله -تعالى- الذي يجب الايمان به والتزامه قولاً وعملاً.
من هنا؛ كان شهر رمضان المبارك الذي أُنزلت فيه المنظومة المعرفية الأولى للمسلمين، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، بداية التزوّد الايماني والروحي للمؤمنين من خلال تلاوة القرآن، وحفظه، والعمل بآياته المباركة، لذا كان هذا الشهر خير الشهور، وليلة القدر منه {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، فهو الخير والبركة الذي تزداد فيه القلوب محبةً وإيماناً ومعرفةً وتقوى، ولذا اطلق الإمام زين العابدين، عليه السلام، على هذا الشهر في صحيفته السجادية، بأنه «شهر الإسلام وشهر الطَّهُور وشهر التَّمحِيصِ وشهر القِيَام». هذه الكلمات لها دلائل إيمانية واسعة وعميقة، ويكفي ما جاء به الوحي من القرآن الكريم، وما ورد من أدعية مباركة عن الرسول الأكرم، والأئمة الأطهار، صلوات الله عليهم، برنامجاً إيمانياً كبيراً يُغذي قلوب ونفوس المؤمنين ويملؤها تقوى وعفافاً.
-
أثر القيم المعرفية في الجانب العملي
أولاً: القيم التربوية الاجتماعية
لا يختلف أثنان في ما يحققه الصيام من آثار كبيرة على الجانب التربوي، إذ يمتاز هذا الشهر عن غيره بتوفير خصال حميدة تتمثل بالإخلاص، والحياء، والمحبة، والتعاون على البر، والالتزام الاخلاقي، وتحسس مشاعر الآخرين، ومساعدة الفقراء، والعطف على الضعيف، والانتماء الفعلي للمجتمع المؤمن، وتحمل المسؤولية، وصلة الرحم، وهذه ركائز أساسية تُسهم في تكامل الفرد والمجتمع، من خلال ملاحظة بعض الآثار التربوية، والانعكاسات الإيجابية التي يخلفها فينا شهر الله المبارك.
و أهم ما يوفره لنا المنهاج الرمضاني؛ إشاعة روح الجماعة، والعقل الجمعي على مستوى السلوك الاجتماعي العام، مما يوجد عناوين ثقافية؛ مثل المحبة والتعاون، مصاديق عملية على ارض الواقع، ومن هنا؛ يظهر ان هذه المفاهيم التربوية لها آثار عملية كبيرة، تأخذ مساحة واسعة من منظومة القيم المعرفية في الشريعة الإسلامية، ومن آثارها أنها تشكل مع بعضها وحدة متكاملة من القيم ذات الردع الاجتماعي لمختلف الرذائل والمنكرات، إذ إشاعة هذه القيم في الوسط الاجتماعي، واصطباغ السلوك الاجتماعي بها يمثل قوة إيمانية كبيرة تنصهر أمامها مختلف أنواع محرمات السلوك الاجتماعي، وحينئذ تتكون جراء ذلك ظاهرة اجتماعية ذات قيمة عُليا تكون هي الشعار الذي يحمله المجتمع المسلم.
ثانياً: القيم الصحية
وللصحة البدنية والنفسية للإنسان أهمية قصوى في الفقه الإسلامي، وقد ورد عن الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، قوله: «صوموا تصحوا» (البحار، ج62/ص267)، في نفس الوقت راعت الشريعة الإسلامية بعض الحالات الخاصة عند الإنسان، و وضعت أحكاماً معينة قد تصل في بعضها إلى حدِّ إعفاء الصائم من وجوب الصوم مراعاةً لحالته الصحية، و وضعت الشريعة على بعضهم بدائل للصيام، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة، الآية184)، وورد في السُنّة المطهرة ما يؤكد ذلك، إذ روي عن الإمام الباقر، عليه السلام، أنه قال: ((الشيخ الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان، ويتصدق كل واحد منهما في كل يوم بمد من طعام، ولا قضاء عليهما، وإن لم يقدرا فلا شيء عليهما» (الوسائل، ج4/ص150).
وهكذا هناك العديد من النصوص الشرعية التي تراعي بعض الحالات الصحية الخاصة، وتضع لها البدائل المناسبة رعاية لصحة الإنسان، ومحافظة على نفسه من الضرر والهلاك. هذا جانبٌ؛ ومن جانب آخر، يذكر المتخصصون في العلوم الطبية أن الصوم من الظواهر الصحية التي لا بد منها، ولقد أكثر الأطباء في ذكر فوائد الصوم، ومما قالوه: أنه ينفي الفضلات المتعفِّنةَ من المعدة والأمعاء، ويريح الجهاز الهضمي، إذ إنه يعد من علاج الأمراض بالحِمية، وبهذا ورد عن أمير المؤمنين، عليه السلام، «إن المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء و اعط كل بدن ما عودته ومنها خفة المؤنة وسهولة الأمر فإن من تعود قلة الأكل أمكنه الاكتفاء بالقليل من المال والذي تعود الامتلاء صار بطنه غريماً متقاضياً له».
وذكر الأطباء من فوائده أيضاً: أنه علاج التهاب الامعاء المزمنة، والتهاب القولون المزمن، ومفيد لاصحاب القصور الكبدي، وفي بعض حالات؛ التحسس، وتأثيره الكبير على الجهاز العصبي للإنسان، وأثره في تنمية القدرات الذهنية، حيث يعمل على تنشيط خلايا الدماغ، وهو وسيلة فعالة للتخلص من الفيروسات؛ منها فيروس الزُهري، ويستخدم الأطباء نظرية التجويع لعلاج الزهري، وهذه بعض فوائد الصوم على صحة الإنسان.
وفي الختام؛ يظهر لنا أن ساعات الصوم وما يُفيضه من صفاءِ النفس، وتهذيب الروح، والصبر على تحمل المشاق، والعطف على الفقراء والمحتاجين، والابتعاد عن الشهوات، وما تجلبه على الفرد من ويلات، وتزكية النفس بالأخلاق الفاضلة من صدقٍ في المعاملة، وأمانةٍ في العمل، ونقاء النفس من الحقد والحسد والبغض للناس، كل هذا يُضفي على النفس البشرية روحَ السلام والمودة والمحبة، وهذا ما يساعد على بناء جيل طاهر نقي واعٍ يتخطى حدود الأنا لينصهر في بوتقة المجتمع.