يُقال أن للشعوب ذاكرةٌ جماعية عميقة فحين تحل بهم كارثة عظيمة تتغيَّر صفاتهم و سلوكياتهم، فكأن هناك ما يُنقش في خارطة جيناتِهم، فتتغير سلوكياتٍ عملية تنتقل من جيلٍ الى جيل.
ففي ايران مثلاً، ضربت مجاعةٌ شديدة طول البلاد وعرضه، قبل قرنٍ تقريباً – ويرتبط ذلك بسياسات البريطانيين في تفريغ البلاد من الحنطة – فمات اكثر من ثلثِ سكان البلاد جوعاً، اي حوالي 10 ملايين نسمة – والتقديرات مختلفة طبعاً-
هذه المجاعة اثَّرت عميقاً في ثقافة الشعب الإيراني، فصار “الطعام” امراً مقدَّساً، ويهتم به أشد الاهتمام، وحتى بعد انتهاء المجاعة بسنينٍ طويلة، إلا ان ثقافة الشعب بقيت ثابتة والذي يظهر في عادات الأكل عندهم وطرق تقديم الطعام وغيرها.
وهذا ايضاً – كما يقول بعض الباحثين- سبب حِرص بعض ابناء العراق من المحافظات الشمالية على الطعام، حرص اتهموا بسببه بالبُخل وصاروا يُشَّهرون به، فقد قيل أنَّ مجاعة ضربتهم ايضاً، جعلتهم يأكلون حتى القِطَط السائبة وكانت سبباً في هذه الصفة.
وكمثال آخر ما نجد في اليابان، حيث كان التضخم الكبير نهاية الثمانينات – يرتبط بفُقاعة الاسعار في سوق العقار- فبقي في ثقافة الشعب الياباني والسلوكيات الاقتصادية ما ساهم في استقرار اقتصادهم.
وكمثال آخر ما اكتوى به الشعوب الاوروبية من نار الديكتاتورية وحكم الرجل الواحد، وما انتج من حربين غربيتين – لا عالميتين- دمَّرت اوروبا شر تدمير، و أفقتدهم سيادة العالم – بعد نقلها الى امريكا-.
وذلك طبع في ذاكرة هذه الشعوب السياسية سلوكياتٍ، وحسّاسية مفرطة تجاه الحكم الدكتاتوري، او الخطاب التحريضي فنجت من تكرار تلك الكوارث حتى الآن.
وفي لبنان حيث اكتوى شعبها بنار الحرب الأهلية قبل ثلاثين سنة؛ طبع في ذاكرة شعبها هولَ الحرب الأهلية ومرارة قتال الأخ اخاه، فجنبَّتهم حرباً مشابهة طيلة هذه الفترة – رغم نفخ الغرب في نارِها وصبِّ الزيت على نار خلافاتهم ومدِّها بالمال والرجال والاعلام-.
اقول: لا نستهين بقوة الذاكرة العميقة للشعوب، وانّي على يقينٍ تام أنَّ ثلاثين عاماً من حُكم البعث الفاشي وما انتج من جرائم وتدمير وحروب و صور المقابرالجماعية، طَبَع في ذاكرة شعبنا ما يكفيه من منعه تكرار الديكتاتورية رغم المحاولات العديدة والمستمرة لذلك، ورغم ما نشاهده من تأثر بعض الصبيان بذلك
لكنهم سيفشلون، وعلى يقينٍ انَّ صور المقابر الجماعية هذه لا تتكرر عندنا
لماذا؟
لاعتبارات سياسية وعسكرية تمنع عودة عقارب الساعة الى الوراء، ولأن
الذاكرة الجماعية للشعوب .. أقوى بكثيرٍ مما نظن!