استشهد أمير المؤمنين، عليه السلام، في 21 شهر رمضان في محراب مسجد الكوفة 40 هـ
📌 مقدمة في العدل
من أسماء الله الحسنى؛ العادل، ومن صفاته؛ العدل، ومن أعظم أوامره القيام بالعدل.
و العدل من أصول الدين الإسلامي الحنيف الخمسة.
وقد جاءت كلمة العدل ومشتقاتها في القرآن الحكيم (29) مرة، وكأنها بعدد أيام الشهر القمري، ولكن ما المقصود بالعدل؟ ولماذا الجميع يبحث عنه، والجميع يخاف منه؟
عدَلَ، يَعدِل، عَدْلاً، وَعُدُولاً، وعَدَالَة، فهو عادِل، بين المتخاصمين: أي أنصف بينهما، وتجنَّب الظُّلْمَ والجَوْرَ، أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
فالعدل؛ الإنصاف من نفسك، وإعطاء كل ذي حق حقَّه، ومن ثمّ؛ نفي الظلم والجور من المجتمع الإنساني، وهنا تُحسب للعدل فضيلته العالمية، ولكن البشر يحسبونها جريمته بينهم لأنهم يكرهون العدل من أنفسهم ويطلبونه من غيرهم، فكل إنسان يُريد ويرغب ويُحب العدل من الآخرين، ولكن تطبيق العدل من نفسه من أصعب الأشياء عليه.
📌 لماذا يكرهون العدل؟
نحن نعيش في هذه الأيام ذكرى أليمة على الإنسانية كلها لأنها تفقد فيه رمز العدالة فيها، ومعيار الفضيلة لها، ومقياس الإنسانية ومعيارها، شهيد العدالة الإنسانية، والقسط الاجتماعي أعدل حاكم عرفته البشرية – كما هم وجدوه وصنَّفوه- الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، الإنسان الرَّمز، والشَّخص الميزان، والحاكم المقياس، والإمام الكامل في كل الصفات الإنسانية.
فلماذا يُقتل فينا مثل هذا الإنسان المِثال، وقد جعله الخالق نموذجاً راقياً لنا في الكمال؟
وما الذي نقموه من أبي الحَسن، والحُسنِ في حياته التي كانت مثالاً أيضاً في كل صفات؛ الشَّهامة، والرُّجولة، والشَّجاعة، والبطولة، والنُّبل في البشرية؟
📌 أمير المؤمنين، عليه السلام، في الحقيقة والواقع كان شهيد عدالته، وعدالته نابعة من تدينه، وفطرته التي فطره الباري عليها
كم تساءلتُ ومازلتُ أتساءل في ذهول وتعجُّب حتى الحيرة؛ لماذ أيها الأشقياء تقتلون الأنبياء، والأولياء، والصُّلحاء فينا، فما يُضيركم وجودهم المبارك، والمشرِّف في المجتمع فبهم تُقام المجتمعات، والدول، ويتناصف البشر بعضهم من بعض؟
فرأيتُ الجواب بعد طول تأمل، وبحث، ودراسة، لاسيما في حياة وسيرة ومسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، من قبل الولادة في الكعبة المشرَّفة، وحتى الشهادة في محراب عبادته، في مسجد الكوفة المعظَّم، كان بسبب عدالته في الحكم، وقسطه في المجتمع، وفضيلته في نفسه، وتدينه وتعبده لربه سبحانه وتعالى.
فأمير المؤمنين، عليه السلام، في الحقيقة والواقع كان شهيد عدالته، وعدالته نابعة من تدينه، وفطرته التي فطره الباري عليها، وهي ذات الفطرة المحمدية السوّية التي لا شوائب فيها أبداً، فهما نفس واحدة في شخصين، بنصِّ القرآن الحكيم، وهما رسالة واحدة في دورين، الأول تنزيل، والثاني تأويل، والتنزيل والتأويل جاء بالعدل في كل جوانبه الأربعة وهي:
- مع الرَّب سبحانه، ويكون العدل بعد معرفته عبادته حق العبادة.
- مع النَّفس، أن يعرف الإنسان نفسه ويُنصفها فيُطهِّرها ويُزكيها ولا يُهملها ويُدسِّيها.
- مع الإنسان الآخر، والعدل هنا أن تعرف حقه، وتُنصفه من نفسك، وتُعطيه حقَّه كما تطلبه بحقك منه فلا تظلمه في شيء ولو بمقدار الذرَّة.
- مع الخلق كله والكونيات، والعدل فيها بأن تُصلح ولا تُفسد فيها لأن الفساد ظلم لها.
هذه الجوانب الأربعة للعدل تحتاج إلى موسوعة للحديث والبحث فيها، لأنها تستغرق وتشمل كل الحياة والأحياء معنا ومن حولنا، وهذا يجعلنا نؤكد بأن الحياة خلقها الله بالحق، والعدل في كل شيء فيها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (سورة الأنعام: 73)، فالخلق بالحق وهو العدل، والقول الحق والعدل هو الصَّادق.
وبهذا ما أخبر به رسول الإنسانية وأفضلها وأعلمها وأتقاها وأنقاها بقوله: “بِالْعَدْلِ قامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ“، وقال صنوه و وصيه؛ أمير العدل والقسط، حكيم الدَّهر أمير المؤمنين، عليه السلام، موضحاً ومبيناً: “إِنَّ اَلْعَدْلَ مِيزَانُ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ اَلَّذِي وَضَعَهُ فِي اَلْخَلْقِ، وَنَصَبَهُ لِإِقَامَةِ اَلْحَقِّ، فَلاَ تُخَالِفْهُ فِي مِيزَانِهِ، وَلاَ تُعَارِضْهُ فِي سُلْطَانِهِ“.
📌 مَنْ يكره العدل؟
ومن بطن السؤال الماضي يمكن أن نعرف جواب السؤال التالي أيضاً؛ فمَنْ يكره العدل في الحكم، والقسط في المجتمع؟ هذا هو السؤال العريض الذي يُحيِّر العقول الآدمية السَّوية لا الظالمة الغوية، لأن الإنسان مفطور على العدل وحبه للعدالة وبغضه للجور والظلم.
ولكن العطب في البشر جاءهم من قِبل النفس الأمارة بالسُّوء، وجنودها التي يلعب بها الشيطان الرجيم حتى يسيطر عليها فيُصبح الإنسان شيطاناً يعبد نفسه وهواها، فيرى نفسه ميزاناً لكل شيء كما قال فرعون لملئه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (سورة غافر: 29)، فلا رأي إلا رأيه، ولا قول إلا قوله، فهو محور هؤلاء الأشقياء الذين يدورون حوله ويُصدقونه في كل تفاهاته حتى قال لهم: {أَنَا رَبَّكُمُ الأَعْلَى}، فصدَّقوه وعبدوه جهلاً.
فالنفس البشرية إذا تخلَّت عن ميزان العدالة والحق تتحول إلى مقياس، ولذا كل الناس يرون أنهم على حق، وكلامهم صدق، لأنهم لا معيار، ولا مقياس، ولا ميزان عندهم، إلا أنفسهم، فقد أضاعوا البوصلة التي تدلهم وترشدهم إلى رُشدهم، وهذا ما بيَّنه الشاعر المتنبي بقوله:
وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ *** ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ
فالظلم ينبع من داخل النفس البشرية، والظلم من طبائع النفس الأمارة، وإنما يصدُّها عن ذلك إحدى علَّتين؛ إما علَّة دينية تُشكل وازعاً لها، أو علَّة سياسية تقف رادعاً لها أيضاً، وهذا سبب وضع القوانين، والتشريعات، وقانون العقوبات لأن الإنسان إذا لم يكن لديه وازع من دين، ولا رادع من قانون فإنه يعيث في الأرض فساداً وإفساداً.
فالظالم يخاف العادل، والحق يخشاه الباطل، ولذا ترى البشر جميعاً إلا ما رحم ربي يخافون من العدل لأنهم يعلمون أن سيف العدل قاطع، وهو يجري على الجميع، ولا استثناء في جريان سُنن العدل وأحكامه فهم جميعاً يخافونه من هذه الناحية لأنهم جميعاً مجرمون في ناحية من النواحي، ويخافون من جريان الحكم بالعدل مهما كانت الجريمة بسيطة، فيخافون من العدل لأنهم مخطؤون، ومجرمون، ومذنبون، وعاصون للقوانين المسنونة لهم في هذه الحياة.
فالبشر لا يكره من العدل أن يجري لهم، بل يكرهونه إن جرى عليهم، فهو يريد أن يأخذ ولا يُريد أن يُعطي من نفسه، وماله، وجاهه، وقوته، ولهذا تراهم يطلبون العدل والإنصاف من غيرهم ولكن إذا جرى عليهم ينفرون ويهربون من حكمه، ومن سيفه البتَّار، لأنه يُهدد مصالحهم، ويُحدد نوازعهم، ورغباتهم في الحصول على أشياء الغير، والتحكم بها كما يريدون هم لا غيرهم.
📌 ما هو العلاج؟
العلاج موجود في الفطرة الإنسانية السَّوية ولكن الإنسان يتشوَّه في مسيرته التربوية من الأبوين والأسرة الصغيرة، ومن ثم المجتمع وأسرته الكبيرة بحيث أنها تلقنه حب نفسه، والسعي لتحقيق رغباتها ومتطلباتها بأي طريقة كانت دون أن تعلمه الإنصاف، والعدل من نفسه لبني جنسه ولمَنْ حوله من الخلق، فيتحوَّل من إنسانيَّته إلى أنانيَّته، فيحب ويعشق نفسه ويمنعها من إنصاف غيره منه، ولذا يكره العدل لجهله به، ولإجرامه و “المجرم يخاف العدالة”، و “مَنْ أمِن العقوبة أساء الأدب”، فلا رادع له ولا وازع.
📌 النفس البشرية إذا تخلَّت عن ميزان العدالة والحق تتحول إلى مقياس، ولذا كل الناس يرون أنهم على حق، وكلامهم صدق، لأنهم لا معيار، ولا مقياس، ولا ميزان عندهم، إلا أنفسهم
ومن أكبر تجليات العدل في هذه الحياة؛ السياسة والحكم، لذا قال أمير المؤمنين، و مربِّي العالمين في كلمة سياسية تربوية راقية جداً له: “أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ اَلْعُلَمَاءِ، وَمُنَاظَرَةَ اَلْحُكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ سُنَنِ اَلْعَدْلِ عَلَى مَوَاضِعِهَا، وَإِقَامَتِهَا عَلَى مَا صَلَحَ بِهِ اَلنَّاسُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْيِي اَلْحَقَّ، وَيُمِيتُ اَلْبَاطِلَ، وَيُكْتَفَى دَلِيلاً بِهِ عَلَى مَا صَلَحَ بِهِ اَلنَّاسُ، لِأَنَّ اَلسُّنَّةَ اَلصَّالِحَةَ، مِنْ أَسْبَابِ اَلْحَقِّ اَلَّتِي تُعْرَفُ بِهَا، وَدَلِيلُ أَهْلِهَا عَلَى اَلسَّبِيلِ إِلَى طَاعَةِ اَللَّهِ فِيهَا“، ما أجملها من موعظة، وأجلَّها من معلومة يوصينا بها أمير المؤمنين، عليه السلام.
فالعلاج فيك أيها الإنسان لأن “العدل إنصافٌ“، و “في العدل الاقتداء بسُنة الله وثبات الدول“، و”مَنْ عدل تمكَّن“، و “مَنْ عدل في البلاد نشر الله عليه الرحمة“، واعلموا أنه “ما عُمِرَتْ البلدان بمثل العدل“، و”ما حُصِّنت الدُّول بمثل العدل“، كما يقول أمير المؤمنين وسيد الوصيين بهذه الدُّرر التربوية والسياسية الرائعة جداً.
فليتنا جميعاً -حاكماً ومحكوماً- نعي ونعرف هذه الحقائق النفسية، والكونية من مكان العدل في الحياة، ومكانة العدالة في تحقيق المتانة والحصانة الاجتماعية التي تُحقق السعادة، والرفاه، والأمن، والاستقرار للبلدان في ظل حكام يعرفون العدل ويحكمون به أيضاً، وإلا فالظلم عاقبته كارثية، كما نرى ونسمع في كل بلادنا ودولنا الإسلامية، ويبقى الظلم ظلمات في الدنيا والآخرة.
وفي هذه الأيام التي نعيش فيها هذه الذكرى الأليمة على قلوبنا جميعاً لشهادة إمام العدل والإنصاف، وشهيد العدالة، ما أحرانا أن نتوخَّى سيرته وسُنَّته في حياته الشخصية، وكيف كان يروضها بالطاعات حتى تأتي آمنة يوم الفزع الأكبر، لنقتدي به فنهتدي في حياتنا كلها، لأنه الإمام القدوة، والأسوة، والمقياس، والنِّبراس.
عظم الله أجورركم بمصاب مؤمنين بأمير المؤمنين، الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، شهيد العدالة.