(عندما ولد عليٌّ ، عليه السلام، في الكعبة ولدت الحكمة، والعدالة في الأمة)
مقدمة حضارية
في هذا الزمن المتقدم جداً والمتطور حضارياً، والراقي تقنياً تجدهم يبحثون عن الحرية لأنهم يشعرون أن ملاك إنسانية الإنسان هي حريته في هذه الحياة، فماذا تعني الحرية؟
فالحرية بالنسبة للإنسان هي الجوهرة الأصيلة التي تبلور له شخصيته في هذه الحياة، وهي محنة الإنسان الفرد، وكذلك محنة الشعوب والأمم، لأنه أصعب شيء يمر به شعب من الشعوب هو فقدان الحرية، وكل الثورات التحررية في العالم قامت لأجل هذه الجوهرة الثمينة والمفقودة في هذه الدنيا في معظم الأحيان، للشعوب والأفراد.
لا سيما في عصر الحضارة الرقمية حيث أنهم يراقبون الإنسان في كل شيء، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة فيها، بل وجعلوا منه حقل تجارب كل منهم يريد أن يجعله دمية يلعب بها، أو فأراً لمخابره العملاقة، وهذا ظهر واضحاً في جائحة ووباء كورونا بأجياله المتعاقبة والمتتالية والتي لم تنته فصولها المأساوية إلى الآن، ولن تنتهي بالقريب العاجل بل علينا أن نتعايش معها كأي فايروس آخر اعتدنا عليه..
الحرية في نهج الإمام علي عليه السلام
لا يعرف الحرية إلا الأحرار، والحر في المفهوم الإسلامي الحق؛ هو ذلك العبد الطائع لله ولرسوله، فكلما حقق هذه العبودية للمطلق يكون حراً في هذه الحياة تجاه كل شيء، ولكن قد يصعب فهم هذه المعادلة البسيطة على البعض من الأعزاء، إذ كيف تكون الحرية بالعبودية؟
الإنسان خُلق في هذه الحياة لغاية، وسبب وهدف هو كما حدده الخالق سبحانه بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. (الذاريات: 56)، فالغاية والهدف من خلق الإنسان هي العبادة، والعبودية وكلما تحقق هذا المصداق فيه كلما تحرر من العلائق الدنيوية الأخرى التي تُكبله في مسيرته وتمنعه من تحقيق سعادته التي يُنشدها ويصبو إليها ويعمل طيلة حياته باحثاً عنها وهي غير موجودة في الدنيا، إلا بنسبة بسيطة في داخل الإنسان ولذا يقضي حياته وهو يبحث عن السعادة ولا يجدها لأنه غافلاً عنها وهي في داخله ونفسه، ولا يمكن له أن يكون سعيداً إلا إذا حقق الغاية والهدف من وجوده وخلقته.
الغاية والهدف من خلق الإنسان هي العبادة، والعبودية وكلما تحقق هذا المصداق فيه كلما تحرر من العلائق الدنيوية الأخرى التي تُكبله في مسيرته وتمنعه من تحقيق سعادته التي يُنشدها ويصبو إليها
بهذا المعنى للحرية نقرأ ويمكن أن نفهم الشهادة الثانية لرسول الحرية والسلام بقولنا: “أشهد أن محمداً عبده ورسوله”، فهو عبده الخالص في عبوديته لله، فاتخذه رسولاً لخلقه، ثم اصطفاه حبيباً لقدسه، فالعبودية بهذا المعنى هي ما نجدها في مدرسة ومنهج أمير الحرية الإنسانية الإمام علي، عليه السلام، الذي قال: “أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار“، و”لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً“، و”لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً“، هذا هو المنهج الأصيل في الحرية الإنسانية، فهي محفوظة ومصانة ومحترمة إلا بحق، فهي جوهرتك وأنت التي تفرِّط بها، وأنت التي تصونها وتحفظها.
حرية الرأي في نهج الإمام علي، عليه السلام
وهو ما نسمية الحرية السياسية بأن يجهر الإنسان برأيه تجاه الحاكم والحكومة سواء كان قدحاً أو مدحاً، وسلباً أو إيجاباً، بحيث يكون لك رأي مخالف للسلطة الحاكمة تقوله بملئ الفم ولا تخاف ظلماً ولا هضماً، وهو ما تتسابق الدُّول والحكومات المعاصرة لحفظه لشعوبها وأممها وما يُطلقون عليه اليوم (الديمقراطية) وهي من أكبر الكذبات التي تروِّج لها المنظومة السياسية الليبرالية وما بعدها من الراسمالة العالمية المسيطرة على مقاليد العالم كله، لأن المعنى الدقيق لهذا المصطلح السياسي عند أصحابها القدما: حكم الطبقة الفاسدة ولكن ترجموها بالخطأ – صدفة أو عمداً – بأنها حكم الشعب بنفسه، وراحوا يعزفون على هذا الوتر النشاز إذ أنه لا يمكن للشعب أن يحكم نفسه، ولا بد له من حاكم، كما قال أمير البلاغة والبيان، عليه السلام، عندما سمع الخوارج يُحكِّمون ويقولون: (لا حُكم إلّا للَّه)، فقال، عليه السلام،: “كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الأَجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر”.
وقال بكلمة أخر بنفس السياق: “أَمَّا الإمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فيها التَّقِيُّ، وَأَمَّا الإمْرَةُ الْفَاجرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ، إلى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ، وَتُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ”. (نهج البلاغة: خ40)
فلا بد من وجود حكم وعلى رأسه حاكم من البشر ليسوس العباد ويعمر البلاد، ولكن أصحاب شعار الديمقراطية راحوا يضحكون به على الشعوب ليحكموها باسمها ولكن في الواقع السياسي الذي بُنيت عليه كل هذه النُظم السياسية اليوم هي باطلة ويُسيطر عليها الطبقة الفاسدة في كل دول العالم، لأنهم ترجموا الكلمة خطأ واستعملوها خداعاً، ولا يوجد في كل الدول الديمقراطية شيء من حكم الشعب بل يحكمهم اللوردات، وأصحاب الأموال فمَنْ يستطيع من عامة الشعب أن يكون في تلك المجالس المخصصة لأولئك الطغاة؟
فالديمقراطية الحقيقية والشورى الواقعية هي في الإسلام فقط فكراً وفي نهج ومنهج الإمام علي، عليه السلام، سلوكاً حقيقياً وواقعياً في الأمة الإسلامية مارسه طيلة فترة حكمه لا سيما حينما أخذوا له البيعة ورفض البعض أن يُبايعوا له فكان يسألهم ولا يُجبرهم على البيعة له ولما كان من ذلك الرجل الفظ السيء الخُلق طلبوا منه كفيل فقال، عليه السلام،: “دعوه أنا كفيله”.
وأما ما كان من الخوارج الذين خرجوا عليه بكل ما يستطيعون، واعلنوا ليس الحرب فقط بل التكفير له وهو أمير المؤمنين ، عليه السلام،، فهؤلاء الأشقياء الذين أجبروه على قبول التحكيم ولما لم يات التحكيم بما أرادوا وعرفوا أنهم كانوا خاطئين أقروا بذنبهم وتابوا منه وبدل أن يأتوا إلى أميرهم ويعتذروا منه جاؤوا إليه طالبين منه أن يقر هو أيضاً بالكفر ثم التوبة، فكانوا يقيسونه على أنفسهم الخاطئة وهو المقياس لكل عمل صالح “فهو صالح المؤمنين” و”أمير المؤمنين”، و”يعسوب الدِّين”، و”قائد الغرِّ المحجلين”، فهو المقياس ولا يُقاس به أحد من البشر لأنه نفس رسول الله (ص) بنص آية المباهلة المباركة.
حرية الخوارج برأيهم
والعجيب أن الإمام علي، عليه السلام، يعلم أن هؤلاء الأشرار هم موجودون في كل زمان ومكان، وأول مَنْ ابتلي بهم رسول الله، صلى الله عليه وآله، فهم قشريون في تفكيرهم، متحجرون في آرائهم، أغبياء في أحكامهم، ورغم ذلك لم يمنعهم أو يجبرهم، أو يُكرههم على شيء بل كان يقول: “إن سكتوا عممناهم، وإن تكلّموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم”. (الطبري)
وتروي كتب التاريخ العجب العجاب في تعامله، عليه السلام، معهم واعطاءه الحرية الكاملة لهم ما لم يقوموا بالفعل والقتال، ومن ذلك يُروى أنه في خطبة الجمعة وعليّ، عليه السلام، على المنبر، إذ قام رجل فقال: “لا حكم إلّا للَّه”، ثمّ قام آخر فقال: “لا حكم إلّا للَّه”، ثمّ قاموا من نواحي المسجد، فأشار إليهم عليّ، عليه السلام، بيده: اجلسوا، “نعم لا حكم إلّا للَّه، كلمة يُبتغى بها باطل، حكم اللَّه ننتظر فيكم، ألا إنّ لكم عندي ثلاث خصال: ما كنتم معنا لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فيها اسم اللَّه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلوا”. (تاريخ الطبري: 5/73).
الديمقراطية الحقيقية والشورى الواقعية هي في الإسلام فقط فكراً وفي نهج ومنهج الإمام علي، عليه السلام، سلوكاً حقيقياً وواقعياً في الأمة الإسلامية مارسه طيلة فترة حكمه
ولم يكتفِ بذلك بل كانوا يُقاطعونه حتى في الصلاة فيسكت عنهم، ويُكفِّرونه وهو على المنبر، وبعضهم كان يتجرأ ويسبَّه بحضوره أو غيابه فكان يُعطيهم الحرية حتى بالإساءة التي تُجرِّمها كل دساتير وقوانين الديمقراطية المعاصرة، يُروى أنه جاء رجل برجل من الخوارج إلى عليّ ، عليه السلام،، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي وجدتُ هذا يسبّك، قال: “فسبّه كما سبّني”، قال: ويتوعّدك؟ (يُهدد بالقتل والاغتيال)، فقال، عليه السلام،: “لا أقتل مَنْ لم يقتلني”.
وإليك هذه الصورة الراقية جداً لأمير المؤمنين وضمان حرية الرأي في دولته وحضرته المقدسة، يُروي أنه، عليه السلام كان جالساً في أصحابه، فمرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال، عليه السلام: “إِنَّ أَبْصَار هذِهِ الْفُحُولِ طَوَامِحُ، وَإِنَّ ذلِكَ سَبَبُ هَبَابِهَا (هياجها)، فإِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى امْرَأَة تُعْجِبُهُ فَلْيُلاَمِسْ أَهْلَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ امْرَأَهٌ كَامْرَأَة”.
فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه.. فوثب القوم لِيقتلوه.
فقال(عليه السلام): رُوَيْداً (مهلاً)، إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْب). (نهج البلاغة: حكمة 410)
وعفى عن الرجل وقال له: “إياك أن تعود لمثلها”، لأنه ربما يُقتل، ومَنْ يتتبَّع سيرة أمير المؤمنين، عليه السلام، خلال حكمه الشريف يتعجَّب من الحرية التي كان يُعطيها للأمة وهو يعلم بما يُريدون وما يُصلحهم بالقوة والسيف، ولكنه كان لا يُريد أن يُصلحهم بخراب الأسس التي قامت عليها الإنسانية من الحرية، لتكون ملاكاً للتكليف الإلهي وبالتالي للحساب والعقاب في الآخرة.
فكانت الحرية هي الجوهرة القدسية التي حفظها وصانها أمير المؤمنين، عليه السلام، لجميع المسلمين وحتى لأعدى أعدائه في قتاله كطلحة والزبير، وبعدهما الخوارج، وكان في كل تصرفاته يُعطي الأمة تشريعاً والإنسانية دروساً في أصول السياسة والحكم فهل نعرف ذلك منه ونقتدي به في حياتنا؟ تلك هي المسألة المستعصية في هذا العصر علينا.