ولدت فاطمة الزهراء في 20 جمادى الآخر عام 5 من البعثة الشريفة
مقدمة تربوية
قالوا قديماً: “الولد سرُّ أبيه”، وهي كلمة تمثِّل عين الحقيقة والواقع، وذلك لأن الولد يحمل الشيفرة الوراثية لأبيه وأمه، ولذا يؤكد الإسلام العظيم، والرسول الكريم، صلى الله عليه وآله، على مسألة إختيار الزوجة المؤمنة، والمرأة الصالحة، وذلك لضمان نجابة الولد فيما بعد، فقال، صلى الله عليه وآله : “تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ اَلْخَالَ أَحَدُ اَلضَّجِيعَيْنِ“، وقال الإمام الصادق، عليه السلام،: “تَزَوَّجُوا فِي اَلْحُجْزِ اَلصَّالِحِ، فَإِنَّ اَلْعِرْقَ دَسَّاسٌ“، فالولد يختزن ماضي والديه وسلالته بالجينوم الوراثي له، وهذا الشيء الطبيعي الذي يتوارثه البشر.
وأما الجانب الآخر فهو الذي يعطيه الآباء للأبناء فهو الجانب التربوي، والتعليمي، وهذا ما سنشير إلى تأثيره في حياة سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليها السلام، التي ورثت من أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأمها السيدة خديجة أنقى وأرقى سُلالة في التاريخ البشري، وهي التي يمكن أن نفهمها من الروايات النبوية الكثيرة التي قالها رسول الله، صلى الله عليه وآله، بحقها وأسمعها الأمة ولكن لم تفقهها هذه الأمة، ولم تعرف معناها ومغزاها فعاملت سيدة النساء بذلك الجحود، وبتلك الفظاظة والغلظة القرشية الجاهلية المتوارثة في أولئك الأعراب.
فاطمة الزهراء بضعة النبي
في الرواية المعروفة والمشهورة من الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، حيث قال فيها: “إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي مَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي“، وفي حديث آخر زيادة قال، صلى الله عليه وآله، لها: “إنَّ اللهَ لَيَغضَب لِغَضَبكِ وَيَرضَى لِرِضَاكِ“. (قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد).
فالرواية عالية وصحيحة وجميع فرق وعلماء المسلمين يروونها بأسانيدهم وصحاحهم، ولن نتحدَّث اليوم عن الرِّضا والغضب على الغاصبين، المعتدين، الظالمين لها، بل سنتحدَّث في يوم مولدها الشريف عن مسألة أُخرى تربوية تُفيدنا في تربية بناتنا العزيزات في هذا العصر الذي ضاعت فيه القيم التربوية عند الكثيرين من أبناء هذه الأمة، فتركوا القدوة والأسوة الحسنة التي أمر الله بها وذهبوا إلى قدوات في الفساد والخلاعة والمياعة ففسدت الأذواق والأعراق.
فاطمة الزهراء، عليها السلام، بضعة، وقطعة، ومضغة، وشجنة، من أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، بل هي أعظم من ذلك – رغم شرافة وعظمة وكرامة البضعة – لأن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أعطاها ما هو أعظم من ذلك بكثير حيث قال عنها: “إنها روحي التي بين جنبي“، أو “إنها قلبي الذي بين جنبيَّ“، فهل يوجد في جسم الإنسان أشرف من القلب؟ وهل يوجد في الإنسان أعظم من الروح، إنها النفحة، والنفخة الربانية في الجسم النوراني للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله.
هذه الحسيبة النَّسيبة كيف كانت تربيتها؟
وكيف كانت علاقتها بأبيها رسول الله؟
التربية النبوية لفاطمة عليها السلام
كانت السيرة النبوية تمثِّل القمَّة التربوية للآباء في تربية بناتهم، لا سيما في ذلك العصر الجاهلي الذي كان يرى في البنت عيباً ومنقصةً يخجل منها فيسعى ليدسَّها في التراب حيَّةً قبل أن يُعيِّره العرب بها كما كانوا يظنون ظنَّ السَّوء، في ذلك المجتمع كان رسول الله، صلى الله عليه وآله، يحترم ابنته فاطمة احتراماً لا مثيل له في تاريخ الآباء منذ آدم وحتى يوم القيامة.
فكان يرى فيها نفسه، ودينه ورسالته، وامتداده في هذه الحياة، فكان يُراعيها برموش عينه، وكم سُمع عنه أنه كان يُفدِّيها بنفسه، حيث يقول: “فِدَاهَا أَبُوهَا ثَلاثاً“، وعند لحظات شهادته فلم يستطع أن يرى دموعها وبكاءها فبَكَى رَسُولُ اَللَّهِ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، لِبُكَائِهَا وَضَمَّهَا إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: “يَا فَاطِمَةُ لاَ تَبْكِيِنَّ فِدَاكِ أَبُوكِ فَأَنْتِ أَوَّلُ مَنْ تَلْحَقِينَ بِي مَظْلُومَةً مَغْصُوبَةً“.
فاطمة؛ التي جاء كل ما يتعلق بها من الجنة كما في الروايات الكثيرة والمتضافرة، وكانت تُحدِّث أمها في بطنها فتواسيها وتؤنسها، وهي النَّسلة الطاهرة التي يكون منها أولياء هذه الأمة، فكانت أُنس أبويها، وعرس ابن عمِّها، وفخر بنيها إلى يوم القيامة، فكان من معاملة رسول الله، صلى الله عليه وآله، لها وتربية لها، ما يتعجب منه الآباء والأمهات، وهي تروي روحي فداها هذا الأدب الراقي، قَالَتْ فَاطِمَةُ: “لَمَّا نَزَلَتْ: (لاٰ تَجْعَلُوا دُعٰاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)، هِبْتُ رَسُولَ اَللَّهِ أَنْ أَقُولَ لَهُ: يَا أَبَتِ، فَكُنْتُ أَقُولُ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي مَرَّةً، وَاِثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثاً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ إِنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ فِيكِ، وَلاَ فِي أَهْلِكِ، وَلاَ فِي نَسْلِكِ؛ أَنْتِ مِنِّي، وَأَنَا مِنْكِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ اَلْجَفَاءِ وَاَلْغِلْظَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، أَصْحَابِ اَلْبَذَخِ وَاَلْكِبْرِ، قُولِي: يَا أَبَتِ فَإِنَّهَا أَحْيَا لِلْقَلْبِ، وَأَرْضَى لِلرَّبِّ، ثُمَّ قَبَّل النَّبِيُّ، صلى الله عليه وآله، جَبهَتِي وَمَسَحَنِي بِرِيقِهِ فَمَا احتَجتُ إِلَى طِيبٍ بَعدَهُ). (تفسير نور الثقلين: ج۳ ص628).
كانت السيرة النبوية تمثِّل القمَّة التربوية للآباء في تربية بناتهم، لا سيما في ذلك العصر الجاهلي الذي كان يرى في البنت عيباً ومنقصةً
وفي رواية عن تلك المرأة التي كانت تغار منها ومن أمها تقول عنها: “ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة، إذا دخلت عليه قام إليها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وإذا دخل عليها قامت إليه فقبَّلته وأجلسته في مجلسها“، وفي روايات أخرى أنه كان يُقبِّل يدها، وهي تُقبِّل يده، بل ويُكثر من تقبيلها، لأنه يشمُّ منها رائحة الجنة، تلك هي التربية الراقية التي يجب أن نتعلَّمها منهما، فكان من برِّه بها، أنه لا يخرج من المدينة إلا من عندها فتكون آخر مَنْ يودِّعه، ولا يدخل إذا رجع إلا إليها لتكون أول مَنْ يبدأ به من أهله.
تعامل فاطمة مع أبيها
بما أن العملية التربوية هي ذات طرفين؛ المربِّي، والمتربِّي، والوالد والولد، والأب والبنت، فهي علاقة متبادلة بينهما وكل منهما يأخذ من الآخر، فكانت فاطمة الزهراء، عليها السلام، في كل لحظة تأخذ وتزداد من أبيها رسول الله، صلى الله عليه وآله، فجاءت آية من آيات التربية البشرية رغم صغر سنِّها، ورحيل أمها المبكِّر عنها.
فكانت في طفولتها تُعامل أباها كأرقى معاملة تعلَّمتها من أمها خديجة، سلام الله عليهما، فكانت تحبه، وتعطف عليه، حتى قال عنها تلك الكلمة التي لا يمكن لنا أن نعرف قدرها: (فاطمة أم أبيها)، ورسول الله، صلى الله عليه وآله، لم ينعم بحنان أمه السيدة آمنة إلا سنوات الطفولة المبكرة ست سنوات فقط، ولذا كانت فاطمة، عليها السلام، ابنة الست سنوات تقوم مقام الأم بالنسبة لأبيها رسول الله.
فالتربية النبوية انعكست على النبي بصورة أرقى حيث مثَّلت البنت دور الأم الرؤوم، العطوف، فلم يقبل النبي، صلى الله عليه وآله، بأن تناديه بالصِّفة التي وصفه الباري سبحانه بها، (رسول الله)، بل أراد أن يسمع منها تلك الكلمة الحنونة التي يجب أن يُنادي بها الأبناء آباءهم: “يَا أَبَتِ فَإِنَّهَا أَحْيَا لِلْقَلْبِ وَأَرْضَى لِلرَّبِّ“.
وهنا إذا أردنا أن نعرف مدى عظمة الأدب التي كانت عليه سيدة النساء ما علينا إلا أن نقرأ حديث الكساء اليماني الذي ترويه، فإنه يطفح بالآداب والمعارف الراقية، وتُعلِّمنا كيف يُخاطب الأب ابنته، وكيف تُخاطب البنت أباها، وأبناءها، وزوجها، إنه دوحة غنَّاء من رياض التربية الفاطمية العجيبة فعلاً.
إذا أردنا أن نعرف مدى عظمة الأدب التي كانت عليه سيدة النساء ما علينا إلا أن نقرأ حديث الكساء اليماني الذي ترويه، فإنه يطفح بالآداب والمعارف الراقية
فاطمة التي كانت تُدافع عن أبيها، صلى الله عليه وآله،في أصعب وأقسى الظروف، وهل يُنسى موقفها حين كانت طفلة وجاء والدها، صلى الله عليه وآله، وعليه من الأوساخ والقاذورات التي ألقاها عليه طغاة قريش الأشقياء، فراحت تُنظِّفه وهي تبكي، فقال لها: “لا تبك يا بُنيَّة إن الله مانع أباكِ“، والعجيب أنه لم يشهد التاريخ لها موقفاً واحداً تُلام عليه لا عند أبيها، ولا في بيتها عند بعلها وأبنائها، فكانت تُعطي لكل ذي حق حقَّه كما أمر الله ورسوله، صلى الله عليه وآله.
فاطمة قدوتنا في تربيتنا
في الحقيقة التاريخية إن فاطمة الزهراء، عليها السلام، لم تكن امرأة عادية بل كانت استثنائية في كل شيء فيها، فهي (حوراء الإنسية)، خلقها الله سبحانه من نور ذاته، وأعطاها هديَّة لرسول، وتُحفة لأمير المؤمنين، عليه السلام، فهي مدرسة في مجالها الحيوي جداً، فهي مدرسة في تعامل البنت مع أبيها، ومعهد في تعامل الزوجة مع بعلها، وجامعة كُبرى في تربية أبنائها، فهي هبَّة الله لهذه الأمة المرحومة بها، فعلينا أن نأخذ منها دروسها التربوية، لا سيما في تعامل الآباء مع البنات، ورد البنات في احترام الآباء.
لأننا بحاجة لاستعادة هذه التربية في أيامنا ومجتمعاتنا الإسلامية في هذا العصر، الذي فقد الكثير فيه البوصلة التربوية الصحيحة، فصارت النظرات والعادات جاهلية، والوأد اليوم أبشع وأشنع من الوأد في الجاهلية كما يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) في دروس التفسير الراقية له.
فاليوم افتقدت الأسرة ذاك الدفء الأبوي، والحب والعطف الأمومي، ولذا بادلنا الأبناء والبنات بنفس الجفاء، للأسف الشديد، فكم نحن بحاجة لسيرة ومسيرة فاطمة الزهراء، عليها السلام، وكيف احتضنت أباها رسول الله ، صلى الله عليه وآله،حتى قال عنها: (أم أبيها)، وكم بادلته الحب والحنان حتى قال عنها: (روحي، وقلب)؟ تلك هي فاطمة (ع) البنت الصغيرة، التي تحوَّلت إلى الأم الكبيرة.
السلام على فاطمة الزهراء أبد الدهر ومدار العصر، وأسعد الله أيامكم يا مؤمنين.