رأي

في ذكرى الشهيد النمر.. لنبحث عن العلماء العاملين

يقول الكاتب المسرحي الايرلندي الشهير؛ جورج برناندشو: “الموت يسد باب الحسد ويفتح باب الشهرة”.

يتسائل الكثير: لماذا لا نعرف هذا العالم، او ذلك المفكر، او الانسان المُصلح إلا بعد موته، بينما كان يعيش بيننا في هذه الحياة، يعمل ويأكل ويتنقل هنا وهناك منشغلٌ بالعطاء؛ تأليفاً، وتدريساً، و حضوراً في الاوساط الاجتماعية والثقافية.

معرفة الشيء بعد فقدانه، يبدو انه مسألة طبيعية رصدها العلماء، وقبلهم؛ نبّه اليها المعصومون، عليهم السلام، في تراثهم الروائي العظيم فيما يتعلق بثنائيات مثل؛ الصحة والمرض، والأمن والقلق، والعدل والظلم.

 بيد أن القضية هنا انسانية بامتياز، فهي لا تتعلق باشياء، وإنما بإنسان يتحمل المسؤولية نيابة عن الآخرين من بني جنسه لأداء رسالة السماء، ونشر قيم الدين والأخلاق، وهداية الناس الى الطريق الصحيح في الحياة.

الشهيد الشيخ النمر كان يخطب من على منبر الجمعة في مدينته العوامية شرق السعودية، كما كان يلقي بحوثه الفكرية في محاضرات خاصة، كما كان ناشطاً في مجالات البر والإحسان، ومواساة الفقراء، ومتابعة أخبار معتقلي الرأي والعقيدة، وتفقد عوائلهم.

 فهل يصحّ أن نجعل هؤلاء مثل الصحة ـ مثلاً- التي نعرف قيمتها عندما نمرض؟! ثم إن الصحة البدنية، والأمن، والعدل، تمثل استحقاقات خاصة ـ في بعض الاحيان- بيد ان وجود شخصية بين الناس مثل الشهيد آية الله الشيخ نمر باقر النمر، يمثل استحقاق لشريحة واسعة من الناس، بل هو عنوان عريض لجماهير الأمة في كل مكان للعالم العامل في سبيل الله، بما تعني هذه الكلمة من معنى.

ثمة اسباب عديدة لهذه الظاهرة غير الحضارية، لكن لا يجب ان تكون ذريعة لتكريسها في واقعنا الاجتماعي والثقافي، فالزمن يسير بسرعة فائقة، والتطورات متلاحقة بشكل مذهل في الميادين كافة، والحاجة تزداد يوم بعد آخر الى عالم الدين، والى خطيب حسيني، والى المفكر، والى المثقف ومن يقف تحت هذا العنوان من كاتب صحفي، أو باحث أكاديمي، أو أديب.

الشهيد الشيخ النمر كان يخطب من على منبر الجمعة في مدينته العوامية شرق السعودية، كما كان يلقي بحوثه الفكرية في محاضرات خاصة، كما كان ناشطاً في مجالات البر والإحسان، ومواساة الفقراء، ومتابعة أخبار معتقلي الرأي والعقيدة، وتفقد عوائلهم.

 كما كان في أوساط الشباب، وفي بلادنا الاسلامية اليوم يوجد من يحمل نفس روحية الشهيد النمر في المعارضة والإصلاح والبناء، كما يوجد آخرون في الحوزة العلمية، وفي المؤسسات الثقافية والاكاديمية والاجتماعية، وربما هي الخشية من التمحور حول شخص ما، مهما كانت تضحياته، وأفكاره ومواقفه، لئلا يؤول الأمر الى صناعة قائد دون آخرين مما يمكن اثارة مشاعر من يكونوا ـ ربما- أكثر علمية، و تجربة، وانجازاً في التأليف والتدريس والتنظير.

 ولذا نجدنا ننتظر الموت الذي يحطّ بجناحيه على هذا أو ذاك، سواءً كان في سجون حاكم طاغية، او على يد جماعات ارهابية، او حتى وإن كان حلول أجله، ليهبّ الجميع الى مجالس الفاتحة ومراسيم التأبين مع غير قليل من عبارات الأسف والأسى وبعض الدموع، ثم يعود كلٌ الى داره ومحل عمله، ومن ثمّ نعود الى نغمات الشكوى والتبرّم من عدم وجود القائد ومن يتصدّى لمظاهر الانحلال الاخلاقي، والمشاكل الأسرية، والجهل في أحكام الدين، والأخلاق والآداب في التعامل بين افراد المجتمع. أين العلماء؟! أين الخطباء؟! أين الكتاب والمثقفين ليرفدوا وسائل الاعلام بما يقوّم السلوك ويصحح الأخطاء؟!

البعض يتصور أن العالِم والمثقف عليه التجوال بين الأزقة والشوارع ليسمع الناس بما يحبون، أو ان يدور على المدارس والجامعات ليلقي محاضراته وأفكاره، او أن يتجول في الاسواق وفي الدوائر الحكومية ويكون في كل مكان، كل هذا مما يجب فعله من حيث المبدأ، فهو منهج الانبياء والأوصياء، ومن ثمّ؛ العلماء ومراجع الدين في التاريخ الحديث، فهم كانوا دوماً بين الناس، من الصغير الى الكبير، وايضاً مع النساء ومختلف شرائح المجتمع.

إنّ تفاعل الجمهور مع هذا الخطيب، او ذاك الكاتب، أو عالم الدين الحريص على حاضر ومستقبل الأمة، يصبّ بالدرجة الاولى في مصلحة الجمهور نفسه قبل ان يتحول الى رصيد قيادي

 وفي نفس الوقت فقد كان هؤلاء العلماء العاملين يؤسسون لمشاريع تثقيف وتوعية يدعون فيها الناس للمشاركة والتفاعل، منها؛ المجالس الحسينية، وما يتفرع من هذه المجالس في الحسينيات من مشاريع تكافل وتزويج ونشر للثقافة الاسلامية، الى عقد مجالس محاضرات وندوات، وايضاً؛ تشييد مكتبات، وحوزات علمية، ومشاريع خيرية وثقافية مختلفة، كل ذلك لفتح الابواب على مصراعيه للمشاركة العامة.

فاذا نقرأ في القرآن الكريم في أحوال الانبياء والمرسلين وطريقة تواصلهم مع مجتمعاتهم في تلك الظروف والامكانات، فقد شاهدنا تجارب العلماء العاملين على نفس الطريق وباساليب وأدوات جديدة في أواسط القرن الماضي، أما اليوم فتم اختصار المسافات والقدرات والزمن بفضل منصات التواصل الاجتماعي وخدمات الانترنت التي تنقل الافكار والأصوات وكل شيء الى الملايين خلال ساعة، مما يعني عدم وجود أي عذر لعدم اكتشاف العلماء والكتاب والمثقفين المتصدين لقضايا المجتمع.

إنّ تفاعل الجمهور مع هذا الخطيب، او ذاك الكاتب، أو عالم الدين الحريص على حاضر ومستقبل الأمة، يصبّ بالدرجة الاولى في مصلحة الجمهور نفسه قبل ان يتحول الى رصيد قيادي، لأن درجة نقاوة النية هي التي التفاعل والتجاوب، حينئذ لن تكون هنالك أي تطلع نحو مكاسب مادية، سوى المكاسب المعنوية في إصلاح أحوال الشباب والمرأة، واقتلاع جذور الفساد بكل اشكاله، وجعل الناس يفخرون بقيمهم وتراثهم، وهذا ما كان عليه الشهيد النمر، كما هو حال علماء وخطباء ومصلحين سبقوه في المشوار وكانوا {صَدَقوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيه}، ولعل سرّ خلود هكذا شخصية، وتفاعل الناس في كل مكان بالعالم معه، هي تلك النوايا الصادقة، والروح الأبية، والتطلع الى الاهداف الكبيرة، إنما المؤسف أن يأتي هذا التفاعل متأخراً، وفي غياب هذا الشيخ البطل.

فهل نتّعظ من تجربة الشهيد الشيخ النمر في الالتفاف حول العلماء العاملين في ظروف معقدة وقاسية كالتي نعيشها؟

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا