“اِلـهي اِنْ حَرَمْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَرْزُقُني، وَاِنْ خَذَلْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُني”.
التألّه، هو التعبد، وإن “اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَ الْإِلَهُ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً” كما في الحديث الشريف.
لم تأت كلمة “إله” قبل هذا المقطع، و قد وردت هنا ليبدأ الحديث المباشر بين العبد وربه بعد تلك الإقرارات منه، والإعترافات منه بنقصه وضعفه، والإعتراف لله بالعبودية، وأن التقدير في كل شيء له، وكل زيادة ونقيصة هي بيده –سبحانه- وبعد الدعوات المتكررة؛ لأن يسمع الله منه الدعاء.
-
ما معنى الرزق؟
يتصور الإنسان أن الرزق هو ما يؤكل ويشرب ويلبس ويحصل عليه من أموال؛ فهذه وإن كانت رزقاً ولكن رزق الله للعبد أوسع، فهناك العديد من الامور في هذه الحياة تُعد رزقاً من الله –تعالى- لعباده ولكنهم يغفلون عنها؛ فالأوكسيجين الذي في الهواء مثلاً والذي تتنفسه ولا تشعر به هو نوع من الرزق، والعافية التي أنت فيها والأمن الذي انت فيه.
فكل نعم الله –تعالى- لعباده هي رزق الهي، بل حتى وجود الانسان في هذه الدنيا رزق ورحمة من الله –تعالى-، فكل شيء في هذه الحياة هو رزق الله -تعالى-.
و الله -سبحانه وتعالى- هو الرزاق ذو القوة المتين، وهذه الصيغة ـ صيغة المبالغةـ لم تأت في القرآن الكريم إلا في سورة الذاريات حيث يقول ربنا: [وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * ما أُريدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُريدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتينُ]. وصيغة المبالغة تعني أن هذا الرازق كثير العطاء، لا ينقطع رزقه.
وللرزق أسباب كثيرة وعديدة؛ فالدعاء والصلاة والاستغفار كلها اسباب الرزق، وهناك الكثير من الروايات التي ذكرت أسباباً لزيادة الرزق.
-
الدعاء لطلب الرزق الحلال
ولأن الحديث في شهر شعبان، فلا بأس هنا من ذكر أن من موجبات الرزق؛ كما عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، هي صيام أربعة أيام من شهر شعبان.
فالله -سبحانه وتعالى- يوسع الرزق على من يشاء ويقدر، وهو اللطيف بما يشاء ويفعل.
وقد شجع الإسلام كثيراً على الإهتمام بالرزق الحلال، بل إن القرآن الكريم بين لنا جلياً أن أحد أسباب عدم قبول الكثير من المشركين توحيد الله –عزوجل- وانحرافهم هو طلبهم للرزق الحرام.
فـ”نعم العون على الدين الغنى” كما في الحديث الشريف، وان النبي، صلى الله عليه وآله، كان ربما نظر الى الرجل فأعجبه قال: “لَهُ حِرْفَةٌ؟” فإن قالوا لا، فيقول: “سَقَطَ مِنْ عَيْنِي” قيل وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: “لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ يَعِيشُ بِدِينِهِ”.
وإذا رأى الإنسان أنه لا يفلح في الحصول على الرزق الحلال فعليه أن يحاول ثم يحاول ثم يحاول، لأنه؛ وكما في حديث الإمام الصادق، عليه السلام: “مَا سَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى مُؤْمِنٍ بَابَ رِزْقٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ”.
-
كيف نرفع الموانع ؟
قد يتبادر سؤال الى الأذهان هنا وهو أن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق وهو الذي لم يخلق بني آدم ليربح عليهم بل ليربحوا عليه، وهو الذي خلق الخلق ليرحمهم كما يقول عزوجل: [إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ..] فاذا كان الأمر كذلك، فما هي حاجة الرب الرزاق القوي الى عبادتنا نحن الضعفاء المحتاجين، ولماذا يجب علينا ان نعمل ونكدح ليل نهار من أجل الرزق؟
والإجابة على هذا السؤال تحتاج الى بحوث طويلة في الآية المباركة التي ذكرناها من سورة الذاريات، ولكن لو أردنا الاختصار كثيرا فنقول: إن رزق الله تعالى موجود ورحمته واسعة، ولكن هناك شروط ينبغي أن تتوافر في الانسان ليكون مؤهلاً لهذه الرحمة الالهية، واساس هذه الشروط الايمان بالله عزوجل وعبادته والتضرع اليه، أرأيت كيف ان أمواجاً مختلفةً تسبح في الفضاء ولكنك لا تستفيد منها إلا بعد ان تشغل جهاز الراديو او اجهزة اللاسلكي او الجوال؟
كذلك هو الحال في استقبالك لأمواج الرحمة الإلهية، وهناك الكثير من الموانع قد تحول دون وصول هذه الرحمة الإلهية الينا وينبغي علينا أن نرفعها.
وفي ذلك يروى أن رجلاً جاء إلى النبي، صلى الله عليه وآله، و قال: يا رسول الله إني كنت غنيا فافتقرت، و صحيحا فمرضت، و كنت مقبولا عند الناس فصرت مبغوضاً، خفيفاً على قلوبهم فصرت ثقيلاً، و كنت فرحانا فاجتمعت علي الهموم و قد ضاقت علي الأرض بما رحبت و أجول طول نهاري في طلب الرزق فلا أجد ما أتقوت به، كأن اسمي قد محي من ديوان الأرزاق؟!
فقال له النبي، صلى الله عليه وآله،: “يَا هَذَا لَعَلَّكَ تَسْتَعْمِلُ مِيرَاثَ الْهُمُومِ فَقَالَ وَ مَا مِيرَاثُ الْهُمُومِ قَالَ لَعَلَّكَ تَتَعَمَّمُ مِنْ قُعُودٍ أَوْ تَتَسَرْوَلُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ تَقْلِمُ أَظْفَارَكَ بِسِنِّكَ أَوْ تَمْسَحُ وَجْهَكَ بِذَيْلِكَ أَوْ تَبُولُ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ أَوْ تَنَامُ مُضْطَجِعاً عَلَى وَجْهِكَ”.
فهذه الأمور التي ذكرها النبي وغيرها هي من موجبات قلة الرزق، كما أن ترك الدعاء للوالدين يقطع الرزق. ومع ذلك كله، فإن كل هذه الأمور لا توصل الإنسان الى مرحلة الحرمان.
بل سبب الحرمان هو تحول الزرق الإلهي الى حجاب بين العبد وبين ربه وذلك لما يصيب الإنسان من البطر والترف، كما حدث مع قرى سبأ والتي كان رزقها يأيتها رغدا، بلدة طيبة ورب غفور، ولكنها بطرت معيشتها.
وهل يمكن للرب الذي يناجيه الإمام قائلاً: “يَا مَنْ قَلَّ شُكْرِي لَهُ فَلَمْ يَحْرِمْنِي”، أن يغضب على العبد، بأن يكون العبد محروماً من رزق الله تعالى؟ فأعظم حرمان الله تعالى لعبده هو أن لا يوفقه للدعاء، وهل هناك شيء أعظم من ذلك أن السميع لا يسمع دعاءه؟ بل لا يوفق للدعاء؟
يقال إن النبي موسى، عليه السلام، كان يذهب لمناجاة ربه فالتقى بشاب في الطريق، فقال له الشاب هل تذهب لمناجاة ربك؟
قال النبي: نعم، فقال له: إذن؛ اين عذاب الله الذي تدّعيه، أنا ومنذ عشرة أعوام أعصي الله ولم يعذبني ولم يصيبني شيء؟
فذهب النبي لمناجاة ربه، وحين أراد ان ينفتل سأله الله عن كلام ذلك الشاب، وكان النبي قد استحى ان يذكر ما قاله، فقال الله له: مسكين هذا الرجل فهو في عذاب منذ عشرة اعوام ولكنه لا يشعر به، فإني قد سلبته مناجاتي منذ عشرة اعوام.
ومن هنا؛ يجدر بنا أن نقول دائما وأبداً: “اللَّهُمَّ وَ أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ ذَنْبٍ يَصْرِفُ عَنِّي رَحْمَتَكَ أَوْ يُحِلُّ بِي نَقِمَتَكَ أَوْ يَحْرِمُنِي كَرَامَتَكَ أَوْ يُزِيلُ عَنِّي نِعْمَتَكَ”، لأن الله سبحانه وتعالى لو حرمنا رزقه فلا رازق لنا، والى هذا المعنى يشير قول الإمام، عليه السلام، في المناجاة: “الهي إن حرمتني فمن ذا الذي يرزقني”، وكأنه إقرار واعتراف من الإنسان بعظم خطر الطرد من دائرة الرحمة الإلهية.
-
إلفات النظر الى القوة العظمى
“وإن خذلتني فمن ذا الذي ينصرني..”
يقول تعالى: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّـهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ].
ينبغي على المرء أن يعرف أولاً: أنه مهما حاول فلن يجد من دون الله ولياً ولا نصيراً.
وثانياً: لو كان على فرض المحال؛ هنالك من يكون ناصراً له، فهل يجد أفضل من الله تعالى نصيراً؟ أوَ ليس الله هو نعم المولى ونعم النصير؟
فلماذا يبحث الإنسان عن غير الله تعالى للنصرة؟
إن انحراف الإنسان عن الجادة يكلفه الكثير في حياته الدنيا، وانحرافه عن ربه ليس يكلفه التعب والنصب والعذاب يوم القيامة فحسب؛ بل إنه سيكون في عذاب في هذه الدنيا أيضاً.
فلنرجع الى صفحات التاريخ و نرى؛ هل وفى الطغاة الذين ركن اليهم الكثير من اصحاب النفوس الضعيفة، رغم ما قدموه من خدمات وخضوع وتذلل؟ ألم يغدروا بهم في هذه الدنيا؟ فكيف يتصور الإنسان ان يكون أمثال هؤلاء، نصراء له في يوم الجزاء؟
حينما آوى ابن نوح، عليه السلام، الى الجبل قائلاً: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، تقول الرواية: “لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيْهِ يَا جَبَلُ أَ يَعْتَصِمُ بِكَ مِنِّي؟ فَتَقَطَّعَ قِطَعاً قِطَعاً إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَ صَارَ رَمْلًا دَقِيقاً وَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ بَحْراً”.
هذا حال الدنيا، أما الآخرة؛ فيصف الرب تعالى حالهم قائلا: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}، وهل من أحد ينصرهم من عذاب الله تعالى؟ {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}.
أما المؤمنون بالله تعالى فتأتيهم البشرى الإلهية بأن :{اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}، حقاً إن الله تعالى خير الناصرين.
أما خذلان الله للعبد فله أسباب شتى، ولعل أبرزها؛ الإعتماد على غير الله و عبادة غيره، ولكن هناك بعض الأسباب التي قد تخفى على الإنسان، وقد نصت جملة من الروايات عليها ومنها:
1- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق، عليه السلام، قال: “الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ خَلْقَانِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَمَنْ نَصَرَهُمَا أَعَزَّهُ اللَّهُ وَ مَنْ خَذَلَهُمَا خَذَلَهُ اللَّهُ”.
2- رد الغيبة: فعن النبي، صلى الله عليه وآله، قال لعلي بن ابي طالب، عليهما السلام: “يَا عَلِيُّ مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نَصْرَهُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَة”.
3- نصرة المؤمن: فعن الإمام الصادق، عليه السلام، قال: “مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخْذُلُ أَخَاهُ وَ هُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ”.
4- نصرة علي بن ابي طالب، عليهما السلام: فعن النبي، صلى الله عليه وآله، في حديث طويل قال: “..وَ مَنْ خَذَلَ عَلِيّاً خَذَلَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ وَ مَنْ نَصَرَ عَلِيّاً نَصَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ”.
“اِلـهي اِنْ حَرَمْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَرْزُقُني، وَاِنْ خَذَلْتَني فَمَنْ ذَا الَّذي يَنْصُرُني الهي أعوذ بك من غضبك وحلول سخطك”.