توجد فكرة لدى بعض الطامحين والساعين للتفوق تقول بضرورة الحفاظ على اسرار هذا التفوق لانه لم يأت بالمجان، فقط شروه ـ كما اسلافهم- بعرق جبينهم، وبجهودهم العضلية والذهنية، ولمن يريد تجربة ذلك عليه السعي كما سعى الذين من قبلهم! وهذا الفكرة اذا نجدها في ثقافة السوق، فهي رائجة ايضاً في ثقافة أهل العلم والمعرفة، وتحديداً بين طلبة العلم في فرعيه؛ الديني والدنيوي ـ إن جاز التعبير- فهناك من يقول: لماذا أساعد طالب في مسألة دراسية تعبت على فهمها وهضمها لفترات طويلة؟ وربما لسان حاله، المثل الشعبي العراقي: “يا من تعب يا من سقى يا من على الحاضر لقى”!
هل التفوق انتصاراً شخصياً؟
بعض الاحيان عندما يحرز الطالب الى مرتبة علمية لا يشعر بوجود أحد من حوله إلا هو الناجح والمنتصر في معركة التحديات، فلا أم ولا أب، ولا أصدقاء و أشقاء وأقرباء ربما يكون لهم الدور والسهم في وصوله الى قمة النجاح، وهم في ذلك يغمرهم الفرح والسرور لأنهم أسهموا في وصول “ابنهم”، او من ينتمي الى أسرتهم الى مراقي سامية للعلم.
هذا العطاء والسخاء في المساندة الشاملة من جهات مختلفة، يفترض ان تشكل قاعدة ثقافية تعكس هذه الفضيلة على سلوك الطالب، فمن النادر أن يرتقي الطالب سلم النجاح وحيداً مقطوعاً من المحيط الاجتماعي، أما الأغلبية فانهم إنما حققوا اهدافهم بمساندة معنوية ـ على الأخص- من الوالدين، أو أحدهما، او من المحيطين، الى جانب المساندة المادية، وهو ما نجده على لسانهم بأنهم مدينون لمن كان من حولهم في تحقيق هذا النجاح.
عندما يشترك أناس كُثر في نجاح الطالب، ما الذي يمنع هذا الطالب من أن يكون هو شخصياً عاملاً مساعداً في تحقيق اهداف زميل له وصديق يطوي مراحل الدراسة مثله؟
فعندما يشترك أناس كُثر في نجاح الطالب، ما الذي يمنع هذا الطالب من أن يكون هو شخصياً عاملاً مساعداً في تحقيق اهداف زميل له وصديق يطوي مراحل الدراسة مثله؟ يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في غُرر الحكم: “لا يكون العالم عالماً حتى لا يحسد من فوقه و لا يحتقر من دونه و لا يأخذ على علمه شيئاً من حطام الدنيا”.
بعض العوائل تكرّس التقوقع والانكفاء على الذات في نفس الطالب بتوصيات مباشرة بعدم الالتفات الى أحد مهما كانت الحاجة قصوى، لاسباب يعدونها مبررة، منها؛ الاتكالية، والاستمرار في استنزاف الوقت لحل هذه المسألة او تلك، وسبب آخر مثير للشفقة، وهي عدم الافصاح بالمستوى العلمي أمام الزملاء والاصدقاء حتى لا يكون عرضة للحسد! لذا نجد ظاهرة الكذب لصيقة بألسن بعض الاذكياء ـ ولا نقول الكثير- عندما يُسئل عن مسألة علمية حتى لا يحوطه زملاؤه، فيفقد مركزيته وتألقه!
حب الأنا يقتل العلم
سمعت من أحد الاساتذة الكرام مثلاً رائعاً عن التواضع في العلم، وكيف أنه ذو مدخلية مباشرة في حياة العالم وشخصية طالب العالم المستقبلية، عندما قال لي ذات مرة: هل رأيت الشجرة كيف تمد جذورها في الارض، انها تحاول الانخفاض الى الارض ما استطاعت ـ حسب انواع الشجر- ذلك من اجل الوصول الى أكبر قدر من الماء وعناصر النمو، لتتمكن فيما بعد من الاخضرار والانتشار في اغصانها وحتى ثمارها، أما الشجرة على ربوة او مكان مرتفع فهي منظورة من الجميع، ولكن محرومة من عناصر النمو، كلما مرّ عليها زمن زادها اصفراراً وجفافاً حتى تتحول الى عود يابس سرعان من ينكسر ويمحى أثره.
وبما أن نفس الانسان وعاء العلم، عليه أن الحفاظ على سلامة هذا الوعاء من التلوث بخصال تمنع استقرار هذا النور الإلهي ومنها؛ الكِبر والتعالي، فانه إن يسبب الانعزالية، فهو يؤدي ايضاً الى قتل العلم في النفس، لان العلم مثل الشجرة تحتاج لمزيد من عناصر النمو والحياة على طول الخط.
وكما يتواضع الطالب للعلم ليزدد علماً، يجدر به التواضع للآخرين ليزدد حلماً وكرماً حتى يكون على سكتي؛ العلم والأخلاق يسير بخطى ثابتة نحو النجاح، ومما جاء في “غُرر الحكم ودُرر الكلم”: ” نعم قرين الحلم العلم”، وقال، عليه السلام، ايضاً: “لا شيء أحسن من عقل مع علم و علم مع حلم و حلم مع قدرة”.
إن النجاح الحقيقي للعلم والعلماء في إغناء أكبر مساحة في المجتمع وفي أرجاء الأمة بالعلم والمعرفة وإضاءة زوايا الجهل، وما أكثرها، في العقيدة، والفكر، والاخلاق
إن النجاح الحقيقي للعلم والعلماء في إغناء أكبر مساحة في المجتمع وفي أرجاء الأمة بالعلم والمعرفة وإضاءة زوايا الجهل، وما أكثرها، في العقيدة، والفكر، والاخلاق، وقضايا عديدة لا يقوى عليها علماء كبار في زمن واحد، فضلاً عن عالم واحد، او طالب يتطلع لأن يكون منقذاً ومفيداً لابناء مجتمعه.
يكفي أن نلاحظ الحالة الشوروية في عديد المستشفيات المحترمة بالعالم عندما يشكلون لجاناً طبية لدى استقبالهم أي مريض، لاسيما في الحالات المعقدة للتشاور في أمر تشخيص المرض، وطرق العلاج ليضمنوا أكبر نسبة من النجاح.
هذه الثقافة تحتاج لتمارين مستمرة خلال سنوات التعليم ليكون الطالب مستعداً للعطاء في ميدان العمل مع حالات خطيرة ومصيرية في المجتمع والامة ويخرج منها مرفوع الرأس.